محمد الباز يكتب: التفسير السينمائى للقرآن (القرآن في مصر 8)

نقلاً عن البوابة

فى حديث صحفى منذ سنوات قال الكاتب والسيناريست الكبير محمود أبو زيد (مؤلف ثلاثية العار والكيف وجرى الوحوش): السينما ليست حراما، ولو كانت قد ظهرت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لكان نشر دعوته من خلالها، لأنها تخاطب ملايين البشر، وبلغة ساحرة جميلة، وأذكر أن أحد رجال الدين الأفاضل قال لى: إننى من موقعى كسينمائى أهم منه وهو على المنبر، لأن جمهور السينما كما ترى أكثر من مرتادى المساجد”.

كان مهما أن أبدأ عن حديث أبحث من خلاله عن إمكانية تفسير سينمائى للقرآن بمحمود أبو زيد، وتحديدا من فيلميه العار وجرى الوحوش.

ففى فيلم العار (1992) حاول أبو زيد أن يقدم تفسيرا عمليا للآية الكريمة *ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها*.

نحن أمام حالة إنسانية إجتماعية بحتة، رب أسرة متدين جدا، لكنه فى الوقت نفسه تاجر مخدرات، قيم الحلال والحرام عنده مختلة، يقدم له صديقه كأسا من الويسكى، فيمتنع، ولما يقول له أنه تاجر مخدرات، يرد عليه بما يجسد ملمحا أساسيا من ملامح الإسلام المصرى: حد الله بينا وبين الحرام.

التقى الورع تاجر المخدرات غير أنه يمثل الإزدواجية المصرية فى شأنها الدينى، إلا أنه يفسر الآية الكريمة *ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها* تفسيرا عمليا اجتماعيا واضحا.

الآية من سورة الشمس، وعندما تفتح تفسير ابن كثير ستجده يفسرها على النحو التالى: قوله تعالى “ونفس وما سواها” أى خلقها سوية مستقيمة على الفطرة، كما قال تعالى “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله”، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”… أخرجاه من رواية أبى هريرة، وفى صحيح مسلم من رواية عياض بن حماد المجاشعى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.

وعن *فألهمها فجورها وتقواها* يقول ابن كثير: أى فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أى بين لها وهداها إلى ما قدر لها، قال ابن عباس *فألهمها فجورها وتقواها* بين لها الخير والشر، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثورى، وقال سعيد بن جبير ألهمها الخير والشر، وقال ابن زيد: جعل فيها فجورها وتقواها، وقال ابن جرير: حدثنا ابن خالد، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل، قالا حدثنا عزرة بن ثابت، حدثنى يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبى الأسود الديلى، قال: قال لى عمران بن حصين أرايت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأكدت عليهم الحجة، قلت: بل شيء قضى عليهم، قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت منه فزعا شديدا، قال: قلت له ليس شيء إلا وهو خلقه، وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال: سددك الله إنما سألتك لأخبر عقلك أن رجلا من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرايت ما يعمل الناس فيه، ويتكادحون أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أم شيء مما يستقبلون مما آتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأكدت عليهم الحجة؟، قال: بل شيء قد قضى عليهم، قال: ففيم نعمل؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها، وتصديق ذلك فى كتاب الله تعالى *ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها*… رواه أحمد ومسلم من حديث عززه بن ثابت به.

يمكن لمتخصص أن يتفاعل مع هذا التفسير للآية، لكنى أعتقد أن غير المتخصص لن يتفاعل معه على الإطلاق، ولذلك إذا وضعت التفسير الاجتماعى العملى الذى ضمنه محمود أبو زيد فى فيلمه “العار” لهذه الآية أمام تفسير ابن كثير، فهو خير وأفضل وأجدى.

إننا أمام شخصية جمعت فى داخلها الخير والشر، تنازع تحت جلدها الطيب والشرير، لكنها انتصرت فى النهاية للشر، لم تغلب تقواها فجورها.

ثم يأتى الدور على أولاد هذا الرجل، وهنا يمكن أن تظهر آية أخرى، أعتقد أن محمود أبو زيد كان يقصدها تماما، وهى: *وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا*.

الآية من سورة النساء، وتعطى الجميع درسا مهما، فالتقوى والقول الصالح هما خير ما يتركهما الإنسان لذريته، فقد ترك بطل العار لأولاده مالا حراما، فأورثهم حسرة وألما.

فى “جرى الوحوش” 1987… قدم محمود أبو زيد معالجة سنيمائية راقية للآية الكريمة التى ختم بها فيلمه “ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته فإن الله شديد العقاب”.

القصة ببساطة لثلاثة من الأصدقاء، محامى لا يكف عن ترديد الآيات القرآنية، تسيطر على خطابه تماما، وطبيب طامع فى سبق علمى من خلال زرع جزء من مخ إنسان فى مخ إنسان آخر، وصائغ حرمه الله نعمة الولد، فدفع معظم ماله ليحصل عليه، وفى النهاية ضاع كل شيء، التاجر خسر ماله ولم يرزق الولد، بل سقط مريضا، والطبيب لم يحقق شيئا على الإطلاق، أما صديقهم الثالث فقد ظل مراقبا لهما، وكأنه كان صوت الضمير الذى لم يسمعا له.

ما رأيكم أن نقرأ تفسير هذه الآية عند بعض المفسرين الكبار.

يقول الإمام القرطبى: قوله تعالى *ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته* لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بنى إسرائيل، لكونهم بدلوا ما فى كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى.

ويقول الإمام الطبرى فى تفسيره: النعمة هنا هى الإسلام، وهذا قريب مما قاله القرطبى، ويدخل فى اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا.

يرتبط التفسير عند الأئمة الكبار بالسياق التاريخى للآية، حاولوا أن يأخذوا منها قاعدة عامة، فلا قصر لها على بنى إسرائيل، ولا على كفار قريش، إلا أنهم لم يستطيعوا التحرر من مناسبة الآية.

محمود أبو زيد تحرر من ذلك تماما، جعل من الآية معنى إنسانىا عاما، لم يتقيد لا بمناسبة للآية ولم يقصرها على قوم أو على قبيلة، منحها حسا إنسانيا راقيا، وجعل عليها شاهدا من حياة أبطاله.

****

قبل تجربة محمود أبو زيد حاول بعض صناع السينما أن يرفعوا آية فى آخر الفيلم، محاولين أن يقدموا معالجة يفسرون من خلالها الآية، لكنهم فى الغالب فشلوا فشلا ذريعا.

فى فيلم “الإنس والجن” الذى لعب عادل إمام بطولته فى العام 1985، ختم صناع الفيلم عملهم بالآية الكريمة *وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون*… فى محاولة منهم للتأكيد على أن الجن موجود فى القرآن، لكنهم قدموا حالة غير موجودة على الأرض، فلم ير أحد جنا، ولم يقل لنا أحد أن جنا تمثل له فى أى صورة.

****

تعامل محمود أبو زيد مع القرآن الكريم بهذه الصيغة الإنسانية الراقية، التى يمكننا اعتبارها تفسيرا واضحا لبعض آياته، لم تكن الصيغة الوحيدة التى تعاملت بها السينما مع القرآن، صحيح أن تعاملها كان سطحيا ومباشرا وتجاريا فجا، إلا أننا لا يمكن تجاهله.

من ذلك أن بعض الأفلام أخذت من آيات قرآنية أسماء لها.

تعرفون بالطبع فيلم “وبالوالدين إحسانا” وهى مقتطع من الآية الكريمة *وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا*… الفيلم أخرجه حسن الإمام فى العام 1976، وكان معالجة لفيلم سابق أخرجه فى العام 1952 باسم “غضب الوالدين”، ولم يكن الفيلم فى نسختيه تفسيرا للآية، بل كان توضيحا لعقاب السماء لمن لا يستجيب لها.

حسن الإمام أخرج فيلما آخر اسمه “كيدهن عظيم”… وهو مقتطع من الآية الكريمة *فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم*”… لم يلتزم الفيلم حرفيا، بل جعل منها “كيدهن عظيم” فى تناص واضح.

حكاية الفيلم لا تقدم تفسيرا للآية بقدر ما تقدم قصة درامية عنيفة من قصص حسن الإمام، نخرج منها أن كيد النساء عظيم، فنحن أمام رجل يرفض زواج ابنه من فتاة غير شرعية، فتنتقم الفتاة من والدها غير الشرعى بأن توقع ابنه فى حبها، ويقرر الابن أن يتزوجها رغم اعتراضات والده، وفى اللحظات الأخيرة تعترف الفتاة بأنها شقيقته، ويضطر الأب غير الشرعى للاعتراف بها.

صحيح أننا لسنا محتاجين إلى هذه القصة لنعرف كيد النساء، إلا أن هناك تفسيرا آخر لكيد النساء الضعيف، وهو تفسير منسوب إلى الشيخ الشعراوى، الذى كان يقول أن الله وصف كيد النساء بالعظيم، لأنه يعلم مدى ضعفهن، ولا يكيد إلا الضعيف، ولذلك عندما قال *إن كيد الشيطان كان عظيما*، كان يؤكد أن الشيطان قوى، ولذلك فهو لا يحتاج إلى كيد عظيم.

على نفس الخط سار المخرج إبراهيم عمارة الذى سبق حسن الإمام فى اقتباسه لأسماء أفلامه من الآيات القرآنية.

أخرج عمارة فيلما اسمه “المال والبنون”… وهو مقتطع من الآية الكريمة *المال والبنون زينة الحياة الدنيا*… إلا أن المعالجة التى قدمها كانت فجة، لم تقترب من المعنى القرآنى الذى سعت الآية إلى ترسيخه.

****

لقد كان موقف الأزهر مميزا عندما قرئ القرآن الكريم لأول مرة فى فيلم سينمائى، حدث هذا فى العام 1946 عندما قرأ الشيخ أو العينين شعيشع بعض الآيات القرآنية فى فيلم “النائب العام”، فوجئ وقتها أن الأزهر الشريف يوجه له الشكر على مساهمته فى الفيلم.

لكن موقف الأزهر تغير تماما عندما أقدم المخرج الكبير يوسف شاهين على تفسير القرآن سينمائيا بشكل كامل.

قبل أن ينتج شاهين فيلمه “المهاجر” فى العام 1994، كان قد تقدم إلى الرقابة بسيناريو فيلم اسمه “يوسف وإخوته”، إلا أن الأزهر الذى تلقى السيناريو من الرقابة ليقول فيها كلمته، رفض تماما المعالجة التى قدمها شاهين… وقتها لم يغضب المخرج الكبير، بل قال فى تصريح صحفى إنه مدين للأزهر بهذا الرفض، إذ تحرر من قدسية النص.

فى سيناريو “يوسف وإخوته” كان يوسف شاهين يحكى قصة النبى يوسف سينمائيا، تلك القصة التى قال عنها فى بداية فيلمه إنها أحسن قصة فى التاريخ.

عند عرض الفيلم قامت الدنيا ولم تقعد، من شاهده رأى أمامه قصة النبى يوسف كاملة، ولم يدخل على الناس تغيير الأسماء، فـ”يوسف” أصبح “رام”، و”يعقوب” تحول فنيا إلى “آدم”، و”امرأة العزيز” التى عرفناها من كتب التراث باسم زليخا أصبح اسمها  “سيمهيت”.

أما الرموز فقد اقتربت مما جاء فى القرآن، فالقميص أصبح قلادة، والجب الذى مكث فيه أياما بعد أن أسقطه فيه إخوته تحول إلى قعر مركب، حتى التجار الذين عثروا على يوسف وقيل عنه وعنهم *فأسروه بضاعة* واجهوه فى الفيلم بقولهم: “إحنا لاقيينك فى قعر المركب… يعنى بضاعة”.

أنكر يوسف شاهين تماما أن يكون فيلمه تقديما لسورة يوسف سينمائيا، لكن الواقع يقول غير ذلك تماما، وهو ما حفز كثيرين على أن يقفوا فى طريقه يحاولون إيقاف الفيلم، لكن المحكمة انتصرت لحرية الإبداع، ومنحت المبدع الكبير شهادة ميلاد جديدة.

****

لكن ما الذى أراده يوسف شاهين على وجه التحديد؟

ما فعله كان محاولة لإعادة كتابة التاريخ الدينى من جديد، استلهم قصة النبى يوسف، وأعاد كتابتها سينمائيا، للدرجة التى تجعلك تقرأ السورة مرة أخرى بوجهة نظر مختلفة، وبرؤية حديثة بعض الشيء، لا أنكر أنه حاول أن يضمن الفيلم رسالة سياسية، لكنه بالنسبة لى الآن، وفى سياق حديث مطول عن القرآن، لن ألتفت كثيرا إلى هذه الرسائل، ولكن يهمنى فقط النظر إلى ما يمكن اعتباره تفسيرا سينمائىا لقصة من قصص القرآن الكريم.

سيحدثونك عن بعض الأفلام الدينية، عددها بالمناسبة فى تاريخ السينما المصرية لا يتجاوز العشرة أفلام، وسيقولون إنها كافية لنعرف من خلالها تاريخ الإسلام، وهو قول باطل تماما، فهى أفلام ساذجة جدا، تصلح لتسلية الأطفال، وباستثناء فيلم “الرسالة” الذى ركز مخرجه العبقرى مصطفى العقاد على قصة حمزة عم النبى رضى الله عنه، فلن تجد فيلما ناطقا بالعربية له قيمة.

القرآن الكريم فعليا يعتبر كنزا بما فيه من حكايات وقصص يستلهم منها الجميع العبرة والعظة، قادر على أن يحرك الخيال بطاقة لا أحد يتحملها، لكن من وضعوا عليه حجابا، حالوا بينه وبين الخيال، منعوا أى مجتهد من تقديم تفسير له إلا فى الكتب العتيقة.

ستقول لى أن هناك تفسيرات عصرية تجاوزت حالة الجمود العاتية فى كتب التراث، سأقول لك: حتى هذه الكتب فيها ما لا يرضى، فهى أسيرة لما سبق وقاله الأولون، لا يقدرون على مغادرتها، يعتبرونها كتبا مقدسة رغم أنها ليست كذلك على الإطلاق.

يمكن أن يتحول القرآن إلى مئات الأفلام التى إذا توفر لها مبدعون من طراز خاص، قدموا فنا راقيا، ينافس الأفلام العالمية التى استلهمت قصصها من العهدين القديم والجديد، ونراها نحن مبهرة، رغم أن إبهارا خارقا يكمن فى القصص القرآنى.

إنهم يخوفون صناع السينما من الاقتراب من القرآن الكريم، يرفعون فى وجوههم رايات التحريم السوداء، رغم أن عملا سينمائيا يمكن أن يعرض لجوانب من القرآن يعوضنا عن مئات من كتب التفسير العتيقة.

وإذا اعترض أحدهم طريقى، وقال إن هذه الكتب تراثنا الذى لا يمكن أن نتخلى عنه، سأقول له ببساطة: ليهنأ الباحثين والمتخصصين بها، فهذا تاريخ العلم الذى يجب أن يدرسوه جيدا، يحصلوا من خلاله على درجات علمية تنفعهم وحدهم.

أما أنا فأتحدث عن عموم المسلمين والأجيال الجديدة التى تبحث عن دينها عبر وسائط أخرى.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: كروان السماء يتحدث عن التغنى بالقرآن (القرآن في مصر 7)

بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016

شارك واختار أي من هذه البرامج أو المسلسلات تتابعها وقت الإفطار؟ أضغط هنـــا

بنر الابلكيشن