أحمد الصاوي يكتب : معجزة عادية جداً ومُدهشة

فى كل مناسبة يُطل فيها الرئيس السيسى على المصريين، سواء عبر كلمة رسمية أو نقاش مسموع، أو تصريح منقول عنه، أو مداخلة تلفزيونية، يحرص على أن يعد الناس وعوداً مفتوحة، وكأنه يراهن مواطنيه على قدرته على إدهاشهم بأفكار، يعتقد أنها قد تمثل نقلات عظمى أو معجزات مقارنة بالأوضاع التى تمر بها البلاد.

قال: “بكره تشوفوا مصر” دون أن يسمح لنا بقدر من الإسهاب لننظر معه لمصر التى يعتقد أنه سيجعلنا نراها غداً، ما هى ملامحها ومقوماتها.

وقال: “هتشوفوا العجب ومش هاتصدقوا إن إحنا عملنا كل ده” دون أن يحدد أيضاً ما هو التحدى الذى يراه أمامه، حتى نعيش معه اللحظة ومن ثم نستطيع أن نفهم الإنجاز حين يتحقق.

وقال: “بكره تستغربوا إزاى كل ده حصل بإيدين المصريين”، دون أن يحدد تفصيلياً ما يراهن عليه فعلاً، وهل يقصد مشروعات بعينها أم سياسات بعينها، ولماذا يعد دائماً بالمفاجآت غير المحددة الهوية، وكأنه مشغول بالتفتيش عما يُدهش ويثير العجب والاستغراب، ويبحث عن معجزة تكون كفيلة وحدها بالدفاع عنه وبإبراز جهده.

إن كنت تراني مخطئاً فى تحليلي فهذا حقك، لكن على الأقل هذه هى الانطباعات التى تصلني من الاستماع إلى مداخلاته وخطاباته، وتأسيساً على هذه الانطباعات يمكن أن أقول وبوضوح إننا كمصريين “مش عاوزين نستغرب أكتر من كده”.

الرئيس يبحث عن الدهشة، ربما كلاعب كرة يريد أن ينتزع الآهات من جمهوره بلعبة بديعة، لكن الحقيقة إن اللعبة العادية جداً ربما تكون أنسب وتدفع للارتياح. تمريرة عادية جداً فى وسط الملعب أو تسديدة تقليدية، أو حركة منظمة لا إبداع فيها غير تقليديتها.

لا يحتاج المصريون مزيداً من الدهشة والعجب، ولا ينتظرون معجزات ـ أو هكذا أظن ـ ربما يحتاجون إلى بلد عادى جداً وحياة عادية جداً، وربما تكون تلك هى المعجزة الحقيقية التى تجلب قبل الدهشة الارتياح.

ظنى أن المصريين يحتاجون قبل أى مشروع قومى أو مبادرة تنموية، لدولة عادية جداً، يحكمها الدستور ويُحاسب فيها المخطئ والمتجاوز بمعايير هذا الدستور.

هذه والله معجزة حقيقية إذا كان الرئيس يبحث عن معجزة، أو سبق يُحسب له على كل سابقيه. بنى غيره المشروعات القومية العملاقة، والطرق والكباري، والمصانع، لكن كل ذلك بدد إنجازه ومكاسبه غياب الدولة العادية جداً الطبيعية جداً التى يحكمها الدستور ويخضع لأحكامه الحاكم والمحكوم.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، عندما يجد الخدمة الآدمية من جهاز الدولة، وقبلها المعاملة الآدمية فى أى منشأة حكومية، سواء كانت مصلحة إدارية أو قسم شرطة.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يعترض على قرار مسؤول ويجد نفسه آمناً من استغلال نفوذه وانتقامه، وحين يحتكم فى خلافاته للدستور ويجد جميع الأطراف محترمة هذه الأحكام.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يتمكن من نيل حقه كاملاً من كل من تجاوز فى حقه فى قسم الشرطة أو الشارع، وأن لا يجد تمييزاً بينه وبين غيره فى مسابقة توظيف أو فى تلقى خدمة.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يُحتجز فى مكان احتجاز قانونى، ويعرف من اللحظة الأولى أسباب احتجازه، ويجد محتجزيه أحرص منه على منحه حقوقه وتبصيره بها، ومساعدته لنيلها، فلا يُحرم من إبلاغ أهله خلال المدة القانونية، ولا يُحال بينه وبين محاميه منذ لحظة الاحتجاز، ولا يؤخر عرضه على النيابة التزاماً بأحكام الدستور، ولا يُتوسع فى حبسه احتياطياً دون داع قانونى واضح وصارخ، ويجد نيابة وقضاء لا شبهة فى استقلالهما، وحقوق خلال الاحتجاز فى الزيارات والعلاج والمعاملة الآدمية لا شكوك فيها.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يجد فرصاً متساوية فى كل شىء، لا يتقدم عليه أحد لأنه ابن قاض أو لواء، ولا يُميز عليه آخر بسبب دينه أو ثروته أو عائلته.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يجد جدية كاملة فى ملاحقة الفساد، دون شبهات تواطؤ أو تخفيف، أو تدخلات بحجب المعلومات عن الرأى العامة، لحماية أشخاص بعينهم وأصحاب وظائف بعينها، وأن يكون الرأى العام شريكاً فى معرفة كل تطور، وأن لا يجد التباسات أمامه تجعله يشك لحظة فى نوايا القائمين على إدارة موارده، أو جدية التزامهم بمكافحة الفساد.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يجد تصدياً رسمياً واضحاً وحازماً لأى تجاوزات للجهاز الإدارى أو الشرطى، دون تبريرات مسبقة، أو استغلال لتضحيات آخرين فى ذات الجهة لتعويم الخطأ، وحين يجد مواجهة الإرهاب غير مقتصرة على المواجهات الأمنية، وأن يكون لكل ممارسة أمنية كود قانونى لا يمكن تجاوزه بأى حال.

سيندهش المواطن المصرى أكثر، حين يتمكن بنزاهة من انتخاب كل مسؤول له علاقة بشؤونه على المستوى الوطنى أو المحلى، وأن تدير السياسة الأمن لا أن يدير الأمن السياسة، وأن يُمكن الناس من تنظيم أنفسهم والتنافس فيما بينهم فى إطار دستور يحكم، وسلطات مستقلة ومنفصلة ومتمسكة بأدوارها وصلاحياتها.

بعض الأشياء العادية قد تُدهش المصريين أكثر، فلا داعي للبحث عن معجزات تجلب الدهشة، كفى بدولة طبيعية جداً معجزة، وكفى بحياة عادية جداً انجازاً.

لم يترك نيلسون مانديلا انتصاراً عسكرياً، أو مشروعاً عملاقاً، لم يحفر ولم يبن، فقط مكن شعبه من العيش فى وطن طبيعى بلا تمييز ولا مظالم صارخة، وترك فكرة حية عن كرامة الإنسان وحقه المبدئى فى العيش الكريم.

ولم يترك آباء الهند المؤسسون غير شعباً مُمكن من حكم نفسه وإدارة شؤونه، فكانت الديمقراطية أداة حماية الدولة وضمان وحدتها كوطن للجميع، وإدارة تنوعه المتعدد، ومشاكله المتراكمة مع الطائفية والجهل والمرض والفقر.

نريد أحلاماً عادية، ومصراً عادية جداً، لا تتطلع لأن تكون “أم الدنيا”، قبل أن تصير أماً حقيقية لكل المصريين، يرضى أبناؤها بموارد قليلة يضمنون إدارتها برشد وعدل، عن أحلام بموارد هائلة يشكون ألف مرة فى حسن إدارتها وعدالة توزيعها. دولة طبيعية عادية تضمن لمواطنيها مظلة حماية اسمها الدستور، وتجلب بطبيعيتها تلك الاستثمار من كل فج.

المعجزة التى نتمنى أن نرى مصر عليها بكره، أن يحكمها الدستور ويحاسب فيها المخطئ، وهذا ليس كثير أبداً وقد يكون مدهشاً.

نقلاً عن التحرير

اقـرأ أيـضـًا:

24 تصريحًا لعلاء الكحكي عن النهار 2016

توزيع جوائز مسابقة إعلام.أورج لأفضل مقال في الميديا

تفاصيل برنامج باسم يوسف الجديد

حكاية عمرو مصطفي و”ريحة” شيرين عبد الوهاب

حرام الجسد ..فيلم جديد للكبار فقط

غادة إبراهيم تقاضي “النبأ” بسبب شقق الدعارة

عزمي مجاهد يسب أحمد حلمي

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا