حسين عبد العزيز يكتب: محمد بركة يخوض مغامرة باهرة في "آيس هارت في العالم الآخر"

لذة النص وأسئلة الموت والوجود في “آيس هارت في العالم الآخر”  محمد بركة

حين صدرت في صيف 2021 رواية الكاتب محمد بركة “حانة الست” التي تروي “القصة المحجوبة” وترسم ملامح “الوجه الآخر المسكوت عنه” لكوكب الشرق أم كلثوم، أحدثت الفارق وصارت حدثا بحد ذاتها. العمل ينطوي على فكرة شديدة الجرأة، لكنها تضمنت بالتوازي نضجا فنيا ولغة نادرة حتى صار الجميع يطرح سؤالا واحدا بصيغ متعددة: ماذا بعد “حانة الست” الصادرة عن “أقلام عربية” وهل يكون العمل القادم لهذا الكاتب على نفس المستوى؟

الإجابة جاءت بعد عام ونصف عبر رواية “آيس هارت في العالم الآخر” الصادرة مؤخرا عن دار “إيبيدي” بالقاهرة لتؤكد أن جعبة بركة من المفاجآت لم تنفد بعد. نص فاتن مدهش تلتهمه في يوم أو يومين بحد أقصى ساعد في ذلك أن العمل “نوفيلا” أو رواية قصيرة دون العشرين ألف كلمة بقليل. منذ اللحظة الأولى أو الاستهلال، يضعك المؤلف في صلب لحظة الوجع والاغتراب التي يعيشها البطل:

“فيروس شديد الخطورة يفتك بالجهاز المناعي للتقاليد والأصول.
لا بد من استعمال مطهر قوي عند التعامل معي حتى أتقيأ أخر أنفاسي الشريرة، كتلة دموية تربك الأشباح في مستشفى قديم مهجور.
أرسم فأجلب لأهلي العار.
ألوّن فأجعلهم ” لبانة ” في فم كل نذل.
لم أنجز معرضي الأول بعد، لكن ما رأوه على صفحتي الشخصية من نماذج سيئة الإضاءة للوحاتي المتربة كان كافيًا كي يضربوا كفًا بكف: سبحان من أخرج الطالحين مِن ظهر الصالحين”.

هكذا تكلم ” مروان ” الذي تناديه حبيبته ” كرستين” بـ “مارو”. شاب وسيم يتعافى من اكتئاب حاد كاد يودي به في مصيدة الانتحار. إنه فنان تشكيلي موهوب لكنه يعاني من الكسل والإحباط وتسعى حبيبته ” كرستين” إلى دعمه و تحفيزه طوال الوقت. يتوفى والده الثري الذي كانت تربطه به علاقة سيئة فيذهب لحضور الجنازة بصحبة حبيبته. وفي البيت الريفي الشبيه بقصر، يصاب بسكتة قلبية وهو يمارس الجنس مع ” كرستين” . يغيب عن الحياة مؤقتا حيث يذهب في رحلة مذهلة إلى العالم الآخر تحمل مفهوما مختلفا للسردية الدينية المتطرفة والمتجهمة. يرى مخلوقات وكائنات عجيبة تحمل بشارة جميلة كما يرى أشياء أخرى مخيفة. يلتقى هناك بوالده وحبيبته الأولى ويتمكن من إنقاذ واستعادة قطته ” آيس هارت” قبل أن تتحول إلى حفنة من التراب.

يفاجئنا “بركة” في هذه الرواية المدهشة المفعمة بأجواء الإثارة والتشويق بمحاولة تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ الرواية العربية الحديثة للإجابة عن السؤال الأزلي: ماذا يحدث بعد الموت؟ ما الذي ينتظرنا تحديدا وراء هذا الحاجز الغامض؟ هل نخشع في حضرة الحب المطلق أم تتغذى على خوفنا كائنات خرافية شرهة ؟ ما حكاية منتخب الأرواح الملعونة وكيف سيكون اللقاء مع أحبتنا الذين فقدناهم في الدنيا وهل يمكن إنقاذ حيواناتنا الأليفة في اللحظة الأخيرة من مصير يدعو للأسى؟

أكثر من 70% من النص يدور حرفيا في العالم الآخر وهذا إنجاز في حد ذاته، لكن محمد بركة لا يكتفي بذلك بل يبتكر بخياله مشاهدات ورؤى تغرقنا في رحلة محمولة على ريح التشويق واللهاث المتتابع، لكن كيف بدأت تلك الرحلة؟ يقول الراوي:
” أنا روح.
لا جدوى من المكابرة أكثر من ذلك.
روح طيبة يباركها النسيم وتهدهدها أنفاس قادمة من أعماق سحيقة لأكوان محجوبة. لم أخرج من جسدي كما تخرج إبرة غليظة صدئة عالقة بقطعة من الصوف المبتل.
أي خيال ذلك الذي ابتكر تلك الصورة السادية!
لا فائدة من إنكار أني مت.
الخوف الأزلي الذي يرافقنا منذ الميلاد تحقق أخيرًا.
ما أعظم الخيال الشعبي حين هتف أحدهم يائسًا: وقوع البلاء ولا انتظاره. الشبح الناعم الذي يحصي علينا أنفاسنا انتصر أخيرًا. الخبر السار أنه لم يكن هناك ثعبان عملاق قبيح الوجه، أقرع الرأس، يقف على بوابة العالم الآخر ليرحب بي وفي يده مطرقة من الصلب. “

يلتقى ” مروان” طيفا سماويا يكون بمثابة مرشده في العالم الآخر فينتهز البطل الفرصة لكى يطرح عليه العديد من الأسئلة الشائكة بمعايير الدنيا لكنها في دنيا الأرواح لا تثير سوى ابتسامة أبوية حانية لدى الطيف الذي يلمس مدى نقاء روح مراون و يعرف أنه لا يريد السخرية أو التمرد بل يبحث مخلصا عن قبس من النور يهديه وسط عتمة التساؤلات التي تتعلق بالوجود و الخلق.

يقول ” مروان” : “يمس جبيني شيء من الارتباك، فما عندي بقايا لغضب قديم تحررتُ منه، لكن ثمة ندبة باقية على جلد الروح”. ثم يدور الحوار بين الطرفين على النحو التالي:

– لماذا كل هذا الإلحاح على عذاب الآخرة؟ لم أحب يومًا أن يكون اقترابي اقتراب العبد الخائف من سوط سيده.
– ولا تحب أن يكون اقترابك اقتراب من يطمع في الجنة.
– بالضبط، فهذا شغل رجال الأعمال الذين يبحثون في الآخرة عن صافي الربح لاستثماراتهم في الدنيا.
– كيف تحب أن يكون اقترابك؟
– أرجوك، أنت تعرف.
– تعني تلك الطاعة المنزهة عن أي غرض، ذلك الحب غير المشروط بأي مقابل؟
– لم أكن لأصيغ الفكرة أفضل من ذلك”.

ويعود “مروان” ليقول : “يمر الوقت غامضًا عصيًّا على الحبس داخل قفص أنيق من الذهب، قد تكون دقائق أو سنوات هي التي مرت قبل أن يسألني مترفقًا:
– ما لي أراك ساكتًا؟
أُغمض عيني تاركًا قلبي يتشبع بنور الخلاص فيما نسمة باردة تمس ألف سؤال.
– ما الذي يدور في خلده بالضبط وهو متوار في عليائه البعيدة؟

خرج السؤال رغمًا عني وأنا أبتعد كنجمة شاردة ابتلعتها الغيوم. لا أعرف إن كان عرف ما في نفسي من علامات استفهام إضافية يمنعني الحياء من التفوه بها:
ألا ينشغل عنا أحيانًا؟
هل الرواية القديمة التي تقول إنه خلقنا ليُبعد عنه الملل والوحدة بها شيء من الوجاهة؟
غمرني صوت يشبه هدير الشلال، نبرة لائمي لها صليل نحاسي:
– خُلقتم من حب ويسري في عروقكم الحب ثم ترتابون؟
اجتاحني شعور عارم بالحرج، لكني لم أستسلم:
– عفوًا، ولكن حقًا وصدقًا ماذا يدور في خلده؟
تبسم بسمته التي في حجم الكوكب ثم سألني:
– هل تأخذ حبة الرمل بجدية لو تساءلتْ عما يدور بخلد السماء لمجرد أن ضوء القمر انسكب عليها ذات مرة؟”
ويبلغ “المرشد الروحي” أو “الطيف السماوي” قمة التسامح مع تساؤلات البطل حين يقول الراوي:

” أسكت فيستحثني:
– ما زال لديك شيء تريد أن تقوله، فهاته.
– حتى لو كان تافهًا أو غير لائق؟
يربت برفق على روحي.
– ما دام خطر ببالك فقد اكتسب مشروعية التصريح به، على الأقل في مقامنا هذا.
– ليست هناك خصومة بين قلبي والسماء، ولكن بعض أصدقائي يلحون في أحاديثهم معي على الابتذال الذي تتضمنه فكرة الطاعة المطلقة، وبصراحة هم يكنّون احترامًا بدرجة متفاوتة لإبليس ويعتبرونه أول معارض سياسي في التاريخ.
– تقصد الجاذبية التي تنطوي عليها فكرة التمرد، البيان الثوري الذي يقال أمام العرش، المجد المستحق لمن قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”؟

أدهشتني دقة تعبيره فهتفت دون صوت:
– وكأنك معنا في “بار ستيلا ” بعد زجاجة البيرة الثالثة!
انتبهتُ لعدم اللياقة فيما قلت وسارعتُ أرجوه عدم المؤاخذة.
تجاهل عبارتي الأخيرة رفقًا وحنانًا”.

قال إن دراسة السلوك الإنساني تتضمن الكثير من الغرائب بالنسبة له، فالقاعدة الأولى لهذا السلوك تتمثل في أنه لا قاعدة تحكمه كما أن التناقض عنوان عريض كثيرًا ما يطل برأسه، فكيف لنا نحن الفنانين على سبيل المثال أن نتحسس من الخضوع للخالق رغم ما فيه من سمو، ونتساهل مع الخضوع للشهوات رغم ما فيه من تدن وترخص، نتحفظ على العبودية للمصدر الأصلي للنور، ونغض الطرف عن العبودية للمؤسسة والمدير والوجاهة الاجتماعية وعدد الأصفار في الحسابات البنكية.

– بعض صديقاتي من غلاة النسوية يتصورن الخالق أنثى، وأعرف أنهن طيبات القلب لا يقصدن سخرية أو إساءة؟
– عليهن حل مشكلاتهن أولاً مع ذكور مجتمعاتهن وعدم القفز عليها بتصعيد المعركة إلى مستوى يتجاوز حدود إدراكهن.
– صديقاتي الأكثر واقعية يتساءلن دائمًا بشأن تخصيص جيوش من الحور العين للرجال في الجنة، بينما تواجه النساء مصيرًا مجهولاً؟
وكأني به يتبسم ثم يقول:
– فليجتهدن أولاً لدخول الجنة ثم لكل حادث حديث.
– البعض يزعم أن الجنة ستكون مملة، فما الشيء المثير في العيش مليارات السنين، التي كلما انتهت تجددتْ تلقائيًّا، دون جهد أو فكرة أو طموح، فقط المتعة الخالصة لعدد من الكسالى الذي يتقلبون على أسِرة من الذهب وشواطئ من الياقوت؟

وكأني بتبسمه يستحيل ضحكة وقورة.
– ماذا تقول أنت ردًا على أصحاب هذا السؤال؟
فاجأني، لكني أجبت بنفسي على نفسي دون تفكير. نطقت بما استقر في ضميري وجرى على لساني منذ اللحظة الأولى وفي نفس الحانة:
– قصر ذيل يا أزعر! “.

يتطلب النص يقظة وتركيزا من القارىء حيث يلقى المؤلف بإشارات الجنس و السياسة بذكاء ووعي وفق منطق جمالي حيث يضف الراوي على سبيل المثال القصر الريفي قائلا: “في ص13 ( تمتزج الحداثة بالسياسة إذن فى تلك التحفة المعمارية المقامة على عدة أفدنه وسط بقعة من أخصب الأراضى الزراعية. دفع أبي المعلوم وشرب موظفو البلدية شايا بالياسمين فى عهد ” الرئيس المؤمن ” فانتصر الأسمنت على السيقان الضخمه للذرة. ودهس الزلط ذاكرة المحاصيل الحقلية ) وهذا اسقاط سياسى على فترة حكم الرئيس السادات بل هى أخطر فترة فى حكمه والتى تعرف بمرحلة الإنفتاح.

وفى ص20 يصف القرية بطريقة جديدة ومختلفة لم نعهدها من قبل:( ترعة صغيرة كانت تشق مسقط رأسى الى نصفين ، لتهب القرية بعضا من انسانيتها القديمة. ردموها فى عهد ” صاحب أول ضربه جوية ” ليزداد القبح رونقا ).

وفي ص 25 تنتاب الراوي مشاعر مختلطة وهو يرى أبيه مسجيا على ” المغسل” حيث كانت تربطهما علاقة سيئة فيقول: ( يفركون بطن ” الديكتاتور المرح”بحثا عن آى فضلات فى أحشائه، يقصون شاربه المفتول الذى كان يباهى به الخلائق به. يزيلون شعر عانته و يقلمون أظافره ، ثم يسدون جميع الفتحات فى جسده منعا لتسرب الأذى. يجب أن يكون على “سجنة عشرة” استعدادا للقاء ملكين لا يعرفان المزاح ).

محمد بركة  محمد بركة محمد بركة

نرشح لك: أحمد عنتر يكتب: “الوثائقية” بألف رجل!