قبل أول طلقة.. قصة قصيرة لـ محمد وليد بركات

محمد وليد بركات
كان شهرا طويلا من التدريب المكثف العنيف قضيناه في بحر البقر، هنا حيث وقعت الجريمة الإسرائيلية البشعة قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال، ما زالت دماء الأطفال تخضب أسوار المدرسة، وأرواحهم الطاهرة تحلق فوق ميدان التدريب، حيث صُنع لنا نموذج طبق الأصل من دشم خط بارليف الإسرائيلي، هنا قضينا شهرا نتمرن يوميا على عبور مانع مائي، أشبه ما يكون بقناة السويس، ثم ما نلبث أن نعبره حتى نتسلق ساترا ترابيا كثيفا، بعدها يؤدي كل منا دوره في الاقتحام، مرة بعد أخرى، كنا نزداد جرأة واحترافية، كان كل منا يحفظ دوره ويتقن أداءه، كنا نتحرك بخفة وسلاسة، حاملين ما يربو على سبعين كيلوجراما من العدة والعتاد، ورغم ذلك، كانت الأسئلة تحاصرنا من كل جانب، هل سنحارب حقا؟!

لم أعرف جوابا على هذا السؤال، وكذلك لم يعرف زملائي، بل إن قادتنا المباشرين أيضا لم يكن أحد منهم يعرف شيئا، بقينا على هذه الحال، نُجهد عقولنا في التدريب، حتى لا تجهدنا بالأسئلة. اليوم انتهى تدريبنا، وجاءتنا الأوامر بالعودة إلى الجبهة، إلى رأس العش، حيث موقع كتيبتي الأصلية، سأعود لأقف ذليلا محترقا، أسمع سخرية الإسرائيليين منا، وسبابهم لنا، وأشاهدهم على أرض سيناء المحتلة، يستمتعون بشمس الخريف الدافئة، بملابس السباحة، بينما تُلهب جلودنا “الشَدّة”، وتحرق رؤوسنا الخوذات الحديدية، التي صدئت من قلة المعارك، لا يُعزّيني في هذا الهوان، إلا ذكرى استبسال سرية الصاعقة المصرية، التي منعت تقدم الإسرائيليين إلى هذه النقطة، قبل أكثر من ست سنوات من اليوم.
عليّ أن أحمل متاعي، واصطف بين رفاق السلاح، لنلحق بالمركبات التي ستحملنا قطاعا من الطريق، قبل أن نقطع المسافة الباقية، بضعة كيلومترات، سيرا على الأقدام، طيلة الطريق يسأل بعضنا بعضا، عما إذا كنا مؤهلين للحرب، وكيف نكون مؤهلين، وليس لدينا من السلاح إلا أقل القليل، وليس معنا من الذخيرة إلا النذر اليسير، وساترنا الترابي حديث العهد، وقد بقينا على الجبهة سنوات شهورا، لا نطلق طلقة نحو محتلي أرضنا، بينما يتحرش بنا طيرانهم بين الفينة والفينة، يرمينا بالموت تارة، ويُجرّعنا المرارة تارة أخرى.

بعد طريق بدت أطول مما عهدناها، وصلنا إلى موقع متقدم، خيام عمال “المقاولون العرب”، العاملين في بناء الساتر الترابي، ما زالت قائمة، والنيران تُنضِج أوانيهم، وجنودنا المرابطون في “الخدمة” عند حافة القناة، يرتدون “فانلاتهم” من دون “الأفارول”، إنه موقف متهرئ، يثير ضحك العدو، وشفقة الصديق، ولا يشير إلى أي استعداد قتالي قريب، إذن فلتبق الحال على ما هي عليه، يدربوننا حتى نتحمس، فلا نملّ البقاء، ولا نفقد الأمل.

ما أطول تلك الليلة، وما أكثر خواطرها، إن القمر في طريقه إلى الاكتمال بدرا، يضيء لنا معالم ما حولنا، وقد مُنعنا أن نستخدم كشافاتنا الكهربائية، خشية أن ترصدنا أعين الإسرائيليين، أو أقمار أعوانهم الأمريكان، يبدو لي من بعيد، كتائب تتحرك، ونشاط غير عادي في ظهر ساترنا الترابي، ولعلي لست مخطئا، هناك مدافع ثقيلة وصلت إلى الجبهة، وهاتان دبابتان تعلوان مصطبتين لإطلاق النار، وسرية من الصاعقة بزيها “المموه” المميز تتقدم الصفوف، ما عساه أن يكون كل ذلك؟! أيعقل؟!

“لو سمحت يا فندم! احنا هنحارب؟!”.. سألت قائدي، فأجاب: “عندما نقول لكم “احتل”، اعلم أنك ستحارب، وطالما أن الأمر لم يصدر، فلا حرب الآن”. لا أعرف إذا ما كان عليّ أن أبتهج بهذا الجواب أم أحزن، كنت أُمنّي نفسي بساعة الخلاص، إما الشهادة والموت بشرف لأنهي سنوات الانتظار الخانع القاتلة، أو النصر، ومستقبل واضح المعالم، وظيفة وبيت وزوجة وأولاد، كباقي من زاملوني في الجامعة، الذين تخرجوا فيها ليبدأوا الحياة، بينما تخرجت أنا لأقابل الموت.

“يا دفعة! فين التعيين؟!”.. سألت الجندي المسئول عن توزيع طعام السحور، إن الفجر يوشك أن يشرق، وعلب “البلوبيف” لم تصل بعد، ورغم سوء جودتها، إلا أنها تقيم أصلابنا حتى نفطر، رد الجندي قائلا: “لا يوجد!”، هل يعني ذلك أننا لن نصوم يوم غد؟! ما هذا التخبط؟! ثمة شيء عجيب يُدبر؟ هل سنحارب؟!

وصلت سيارة القائد، ترجل منها مسرعا، تحلقنا حوله بالعشرات، أمرنا بالانتظام، وسأل: “هل تريدون أن تحاربوا؟!”، هتفنا بالإيجاب بحماس شديد، ابتسم، ثم ركب السيارة، ورحل مسرعا. بعدها بدقائق وصلتنا إمدادات من الذخائر، وأُعطينا منها ما أردنا، وعبأنا متاعنا منها حتى امتلأ، وبدت الشواهد تقول إن ثمة حرب قريبة قادمة، ولكن الأوامر تقول: “ليس بعد”، على كل حال، لقد بزغت شمس العاشر من رمضان، ولم ينقطع هدوء الجبهة بطلقة رصاص واحدة، وطالما أن الاشتباك لم يحدث مع أول ضوء من النهار، فإن ذلك يعني أنه لن يقع حتى آخر ضوء من اليوم، هكذا علمونا، إذن فلننتظر حتى مغيب الشمس، لعله يأتينا بنبأ يقين.

استلقيت سويعات قلائل، والجبهة تعج بالزحام الهادئ، وخشعت الأصوات فلا تسمع إلا همسا، حتى انتصف ظهر اليوم، وعلت الشمس الرؤوس، فاشتد الحرّ، ثم أخذت الشمس تميل نحو الغرب، حينئذ.. جاءنا القائد من جديد، انتظمنا حوله ننتظر الأوامر، لم يتكلم كثيرا، فقط قال: “احتل”.
سكون..
وجوم..
صمت رهيب..
ودموع تنساب هنا وهناك..
معقول؟!
سنحارب؟!
جرى شريط الذكريات في العيون والعقول، مرثيات رفاق السلاح الذين تم استدعاؤهم للخدمة، وكانوا ممن شهدوا كارثة يونيو 67، كيف كان الطيران الإسرائيلي ينقض عليهم في الصحراء ليحصدهم بلا هوادة، وكيف كانت الدبابات تدهس أسرانا، ثم تترك جثامينهم لوحوش الصحراء، وكيف كانوا يساقون عرايا إلى معسكرات الأسر، حيث التعذيب الهمجي والتجويع؛ ليبوحوا بأسرار الجيش المصري.
أما الأصغر سنا مثلي، فلم يكن ذلك وحده ما يشغلهم، أخذت أسأل نفسي، أيقعل أن تنتهي حياتي قبل أن تبدأ؟!
كنا جميعا نسأل أنفسنا، ثم نخشى أن نسمع الإجابات، وكنا من جانب آخر نسأل: ماذا لو هاجمنا الطيران الإسرائيلي؟! هل تقدر مدافعنا وصواريخنا على صده عنا؟! ثم نسأل عما ستفعله بنا أنابيب النابالم إذا أشعلت صفحة مياه القناة؟! ثم نسأل عن احتمالية نفاد الذخيرة؟ وعن تخلف الأسلحة التي بين أيدينا؟ وعن مناعة حصون بارليف؟ وعن.. وعن.. وعن؟؟
كانت الأسئلة كثيرة، والإجابات منعدمة؛ لأنه ببساطة، لم يكن أحد ينبس ببنت شفة، وإنما كان الجميع يتحركون في سرعة شديدة، وفي نظام شديد، وفي صمت شديد، كل منا يؤدي دوره، ويتخذ موقعه، ويعد عدّته، ويستجمع قواه، ويشحذ عزيمته، ويودع دنياه، حتى أن الكثيرين منا دوّنوا أسماء ذويهم وعناوينهم، قبل أن يدفعوها لزملائهم، مع توصية بالرفق في إبلاغ خبر الاستشهاد إن وقع!
ثم قطع الصمت هدير طائرات تحلق على ارتفاع منخفض، إنها طائراتنا عبرت القناة، كانت المرة الأولى التي نراها رأي العين، ألقت علينا مظلة من الأمان، ومعها، ودون أن تطلب الأمر، فتحت مدافعنا جحيمها على خط بارليف وساتره الترابي، وانطلقنا في قواربنا نعبر القناة، نغسل بمائها عار الهزيمة، وحسرة النكسة، ونعلن الانتصار على الشك والخوف واليأس، قبل أن نطلق طلقة واحدة..
(القصة مستمدة من شهادة الجندي/ فتح الله ميرة، لقناة “المجموعة73 مؤرخين” على يوتيوب)

نرشح لك: كرمهم الرئيس في احتفالية القوات المسلحة.. ما قصة أبطال “أبو عطوة” في حرب أكتوبر؟