وائل حمدي يكتب: عندما يكون الزمالك اختيارا

تمت كتابة هذا المقال عام 2010 ضمن مشروع كتاب احتفالي بمئوية نادي الزمالك

“بيبو.. بيبو.. أهلي حديد”.. نعم، كنت أردد هذا الهتاف، بمنتهى الصدق والإخلاص والسعادة عندما كنت طفلا.. وحتى وقت قريب جدا، كانت أمي محتفظة بشريط كاسيت مهترئ، يحفظ صوتي مرددا الهتاف نفسه وأنا في الرابعة من عمري!

حسنا، لم أشاهد كائنا زملكاويا عن قرب في طفولتي المبكرة.. والدي، وكل أعمامي وعماتي، أهلاوية حتى النخاع، بينما لم تبد عائلة والدتي اهتماما بكرة القدم أصلا (الآن أصبحت أمي أهلاوية متعصبة جدا) وأذكر أن والدي حكى لي مرة، أن والدته -أي جدتي- كانت تشجع الترسانة.. علمت لاحقا، ربما وأنا في المرحلة الإعدادية، أن زوج إحدى عماتي كان زملكاويا، وكانت معلومة صاعقة بالنسبة لي، لأن ابنه وابنته كانا أهلاويين شديدا الإخلاص، تأثرا بأمهما.. في بيئة حمراء من هذا النوع، لا سبيل لنشأة طفل أبيض.. وهكذا ولدتُ أهلاويا.

بحكم عمل والدي، سافرت إلى دولة الإمارات العربية منذ كان عمري أربع سنوات.. في نفس العمارة التي سكنا فيها، كانت تقيم أسرة “اونكل فاروق”، وهو زميل لوالدي في العمل أيضا.. كنت أراه إنسانا عاديا، ربما يتحدث بسرعة زائدة عن اللازم، ربما يستظرف أحيانا، أو أنني كطفل لم أكن أفهم دعاباته، لكن في النهاية، كان مجرد صديق عادي لوالدي، حتى جاء يوم، كنت في السادسة من عمري تقريبا، لا أذكر ملابسات ذلك اليوم جيدا، لكنني عرفت فيه أن “أونكل فاروق” زملكاوي.. عندها شعرت أن الأرض تميد من تحت قدمي.. ازاي يا بابا؟ ليه بيشجع الزمالك؟ يعني هو كده لما الأهلي يلعب مع الزمالك هايشجع الزمالك؟ طب ليه؟ هو فيه حد مابيحبش الأهلي؟ هو ينفع مانشجعش الأهلي؟ وأكثر من هكذا أسئلة، دارت في ذهني وأمطرت بها والدي.. كنت مذهولاً بحق، وأخذت أعيد النظر في كل ما أعرفه عن اونكل فاروق، وقضيت وقتا طويلا في استرجاع كلماته ودعاباته وحركاته وضحكته وطريقته في الأكل والمشي والجلوس.. كنت أبحث عن ذلك الاختلاف الجوهري الذي لا بد من توافره بين ذلك الكائن الزملكاوي والبشر الطبيعيين الأهلاويين.. لم أجد فارقا بيولوجيا ظاهرا، غير أن شعر أونكل فاروق كان شائبا، بياضه أكثر من سواده، بينما شعر والدي كان محتفظا بلونه الداكن تماما.. بيني وبين نفسي، توقعت أن يكون هذا الشيب أحد علامات الزملكة، وطبعا الآن أستطيع القول أن مصائب الزملكاوية ومعاناتهم مع فريقهم كفيلة بذلك، حتى لو لم تكن نظرية ذات أساس علمي!

طبعا صدمتي بكون “أونكل فاروق” زملكاوي، تبعتها صدمة أخرى، وهي أن أسرته بالكامل من مشجعي الزمالك، طنط ليلى زوجته، وخالد وعبير أولاده.. كلهم زملكاوية.. هكذا، أصبحت مدينا لتلك العائلة البيضاء، أنها وضعتني أمام اكتشاف خطير، وهو أن لمباراة كرة القدم طرفان وليس طرفا واحدا، وأن لكل طرف مشجعوه ومريدوه، وأن عدم معرفتنا الشخصية بمشجعي ومريدي أحد الأطراف، لا ينفي وجودهم في الدنيا.. عالم الكرة، ليس الأهلي فقط، إنه درس مهم.

معرفتي بوجود بشر طبيعيين غير أهلاويين، لم يغير شيئا في عقيدتي الأهلاوية.. فالأهلي أفضل بالتأكيد من أي فريق آخر، بدليل أن والدي يشجعه، وهو رجل تنافسي، لا يقبل على نفسه أن يتخلف في أي مجال عن موقع الصدارة.. لكن شيئا ما تغير في نفسي بسبب اولمبياد لوس انجلوس عام 1984، شاركت مصر وقتها بمنتخبها الأول في مسابقة كرة القدم، حيث لم يكن قد ظهر نظام “المنتخبات الأوليمبية”، بل كان شرط الفريق المشارك في الأولمبياد أن يكون لاعبوه من الهواة، ووقتها لم يكن الاحتراف قد عرف طريقه للدوري المصري.. المهم، تابعت مسيرة منتخبنا في تلك البطولة بشغف، كانت الإدارة الفنية لعبده صالح الوحش، وأذكر أن لقاءنا الأول في دوري المجموعات كان مع إيطاليا، لقاء عنيف عصيب، خرج فيه الخطيب مصابا، وطرد مصطفى عبده بعد نزوله بدقيقة واحدة، بالإضافة لطرد اثنين آخرين لا اذكرهما، لأنهما لم يكونا أهلاويين غالبا، وكانت النتيجة أننا انهزمنا بهدف.. اللقاء الثاني كان مع الولايات المتحدة، وخسارته كان معناها الخروج المبكر، كنت انتظر الخسارة بشكل يقيني، فـ “بيبو” و”المجري” لن يلعبا للإصابة والطرد، كما أن أمريكا كانت قد فازت في لقائها الأول مع كوستاريكا، وهو ما يعني أنها فريق قوي.. وبالفعل، تقدمت أمريكا مبكرا بهدف صادم.. لكن المفاجأة الرائعة، أننا تعادلنا، سجل هدف التعادل لاعب رائع، ممتاز، عظيم، حريف، قناص.. هكذا هلل المعلق بكل المديح السابق، وعلى هذا التهليل صفق أبي سعيدا فرحا، بما يعني أنه موافق على هذه الأوصاف.. مين ده اللي حط الجول يا بابا؟ عماد سليمان.. ده مش بيلعب في الأهلي يا بابا، صح؟ أيوه، بيلعب في الإسماعيلي.. ايه الإسماعيلي ده؟ فريق يا حبيبي زي الأهلي والزمالك كده!

يبدو أن عالم الكرة أكبر مما كنت أتخيل، لكن أهمية تلك الواقعة، أنني انفعلت حبا مع لاعب غير أهلاوي.. أحببت عماد سليمان الذي أهدانا نقطة التعادل.. ورغم أننا فزنا على كوستاريكا في المباراة التالية، وصعدنا لدور الثمانية، إلا أنني لا أذكر أصحاب أهداف الفوز.. عماد سليمان هو الذي أثر في نفسي التأثير الأكبر.. لكنني ما زلت على أهلويتي، بل أنني بمرور السنين كنت أزيد تعصبا للأهلي، وأنفر أكثر من الزمالك تحديدا.. لا شك أنني كنت متأثر بمزاج الوالد وآرائه، خصوصا أنها كانت تبدو آراء صائبة، فاللاعب الزملكاوي “جمال عبد الحميد” هو الذي أهدر ضربة الجزاء أمام المغرب، وحرمنا من الصعود لكأس العالم 86 (لاحظ أن معلومة انتقال عبد الحميد من الأهلي للزمالك بعد كسر ساقه، لم تكن معروفة لي وقتها، وهي من المعلومات التي أثرت لاحقا في ميلي للزمالك) على جانب آخر، نجم الأهلي طاهر أبو زيد، هو الذي أطلق صاروخه على “بادو الزاكي” حارس مرمى المغرب في قبل نهائي بطولة أفريقيا، لنفوز بهدف نظيف ونتخلص من العقدة المغربية، وفي النهائي كان نجم الأهلي أيضا ثابت البطل، هو السد العالي الذي أوصلنا للكأس بعد ضربات الجزاء. بالتوازي مع ذلك، كان الأهلي منتظم كعادته في حصد البطولات محليا وإفريقيا، وبالتالي لم يدخل الشك قلبي تجاه انتمائي الكروي.

تحقيق حلم الصعود لكأس العالم، على يد منتخب الجوهري عام 90، كان مصحوبا بهبوط في منحنى قوة فريق الأهلي، وهو ما أدى لظهور لاعبين عديدين في المنتخب من فرق مختلفة.. وقتها كنت قد أصبحت صبيا واعيا، وعندي القدرة على تحليل أداء اللاعبين، ذلك الجيل، عزز عندي الفكرة التي زرعها عماد سليمان سابقا، وهي أن اللاعبون المهرة الجيدون المجيدون، ليسوا حكرا على الأهلي فقط.. فإذا كان حسام حسن، صاحب هدف التأهل في الجزائر أهلاويا، فإن صاحب “الرفعة” كان أحمد الكأس الذي يلعب في الأوليمبي، و”هشام عبد الرسول” اللاعب في فريق المنيا، كان واحدا من أفضل لاعبي الوسط وأكثرهم مهارة وقدرة على التسديد المحكم (أصيب بكسر في حادث سيارة قبل المونديال، وحزنت عليه جدا) بينما “هشام يكن” و”إسماعيل يوسف” و”أحمد رمزي” “وجمال عبد الحميد” الذين ينتمون جميعا للزمالك، كانوا وقتها من أهم أعمدة المنتخب (لا أنسى أبدا هدف إسماعيل يوسف في اسكتلندا، ضمن مباراة ودية استعدادا للمونديال، هذا الهدف أصابني بتأنيب ضمير أهلاوي شديد لفترة طويلة، من فرط إعجابي به وبصاحبه). بعد كأس العالم، والدموع التي ذرفتها على هزيمتنا من إنجلترا.. خفتت متابعتي لعالم كرة القدم عموما، ربما بحكم تقلبات المرحلة العمرية، وتغير الاهتمامات، وقصص الحب المراهقة وما إلى ذلك.. وربما بسبب التطورات السياسية الخطيرة، غزو العراق للكويت، وما تلى ذلك من أحداث كانت مؤثرة وتمس حياتنا في الإمارات بشكل مباشر.. وربما أيضا بسبب التراجع الواضح في مستوى الأهلي، وأذكر أن رحيل المدرب الألماني “فايتسا” أثر سلبيا بشدة، وفي الوقت نفسه كان “ديف ماكاي” مع “فاروق جعفر” يحققان الدوري للزمالك موسمين متتاليين.

لكن في عام 92 أنهيت دراستي الثانوية في الإمارات وجئت إلى مصر للالتحاق بالجامعة، جئت بمفردي بينما بقي والداي في الإمارات، ومن بعيد تابعت أحداث الموسم الكروي 92-93، إنه الموسم الذي تحدث فيه الجميع عن روعة أداء الإسماعيلي، ومن حين لآخر، وجدتني مشدودا لمتابعة مباريات الدراويش، أذكر أسماء بعينها من ذلك الجيل، على رأسهم أحمد العجوز.. وجدت أن أسلوب لعبهم ممتع بحق، وعندما قارنته بأسلوب لعب الأهلي، وجدت أن فارق المهارة والاستمتاع واضح تماما.. في ذلك الموسم، تعادلت نقاط الأهلي والإسماعيلي مع نهاية الدوري، وتم الاحتكام لمباراة فاصلة.. هذا يوم مشهود في علاقتي بكرة القدم.. كان والداي قد عادا من الإمارات، تابعت تلك المباراة مع والدي، وأثناء المتابعة، وجدتني لا إراديا أنفعل إيجابا مع جماليات لعب الدراويش.. وأمسكت بنفسي متلبسا بالتصفيق تحية لهم على الهدف الأول.. وعندما انتهت المباراة بفوز الإسماعيلي بهدفين وحصوله على الدوري، شعرت بارتياح لأن تلك النتيجة كانت عادلة من وجهة نظري.. طبعا لا أنكر أن عنصرا نفسيا دفينا كان يؤدي عمله في تفكيري وقتها، فأيامها كانت علاقتي بوالدي متوترة، بسبب اعتراضه على خياراتي الدراسية، ولا استبعد أبدا أن سعادتي بفوز الاسماعيلي يومها، كان منسوبا بقدر ما إلى رغبتي في التنغيص على والدي الأهلاوي.. لكن أيا ما كان تحليل ذلك اليوم، فالأكيد أن علاقتي بكرة القدم المصرية اختلفت تماما من بعده.. وجدتني متحررا من تشجيع فريق بعينه، ورأيت أن من حقي تشجيع “اللعبة الحلوة”، واخترعت نظرية تقتضي تشجيع اللاعبين لا الفرق، حيث وجدت في كل فريق عددا من اللاعبين الذين يستحقون المتابعة.

متى بدأت أميل للزمالك عاطفيا؟ كيف أصبحت زملكاويا؟ لقد تم ذلك على مرحلتين.. المرحلة الأولى، عندما تولى محمود الجوهري مسئولية تدريب الفريق عام 93.. كانت هذه مفاجأة مدوية بكل المقاييس الرياضية المصرية، فالرجل معروف كواحد من أهم خريجي مدرسة الأهلي التدريبية، وكان جنرال التدريب على المستوى القومي.. تدريبه للزمالك أشعرني أن الانتقال من معسكر لمعسكر آخر ليس بالجريمة الكبرى، كما أنه دفعني لمتابعة الزمالك بقدر كبير من التعاطف، نظرا لأني كنت من محبي الرجل، بل أن والدي شخصيا، لم يستطع أن يتخلص من محبته للجوهري بعد تدريبه للزمالك، وأظهر معه قدرا من التعاطف، كما أن الجوهري استطاع تدعيم صفوف الزمالك بعدد من الناشئين الصاعدين الذين كانوا مثار إعجاب كثيرين، أذكر منهم محمد صبري وأسامة نبيه ومعتمد جمال، وفي أول لقاء بين “زمالك الجوهري” والأهلي، فاز الأول بهدفين، أحرز “صبري” ثانيهما بتسديدة صاروخية في الزاوية اليمنى العليا.. ورغم أن الدوري ذهب في ذلك الموسم إلى الأهلي، إلا أن الجوهري اقتنص بطولة هامة للزمالك، وهي بطولة أفريقيا لأبطال الدوري، ومع فوز الأهلي ببطولة أبطال الكؤوس، كان لقاء الفريقين في جوهانسبرج للعب على أول كأس سوبر أفريقي، وهو الحدث الذي استرعى انتباه الجميع أيامها، وفاز الزمالك في تلك المباراة، بهدف لأيمن منصور.. في ذلك اليوم لم أجد في نفسي أي حزن لخسارة الأهلي أمام غريمه التقليدي، وكان يبدو أني في منتصف الطريق إلى تشجيع الزمالك.

محمود الجوهري

المرحلة الثانية لعملية زملكتي، تبدو معقدة ومركبة، وقد امتدت تشابكاتها وعناصرها على مدار عامين تقريبا.. سأحاول هنا أن أضع يدي على كل هذه العناصر:

1- دخل عدد من الشباب البورسعيدية في الدائرة المقربة لأصدقائي، وقد كان انتماؤهم الكروي، للمصري أولا، ثم الزمالك من بعده.. أدركت وقتها أن مدن القناة عموما تميل للزمالك بسبب أحداث تاريخية لها علاقة بفترة الحرب والتهجير، وهو ما أشعرني أن الفجوة بين عدد مشجعي الأهلي والزمالك ليست واسعة، وقد كنت قبلها أعثر بالكاد على شخص زملكاوي، سواء في مسقط رأسي دمياط، أو في مدينة المنصورة حيث دراستي الجامعية.

2- شاهدت عن قرب، وباحتكاك مباشر، أنواعا مختلفة من التمييز والاضطهاد ضد أصدقاء مسيحيين.. كرهت تماما فكرة انتهاك الأغلبية لحق الأقلية في التواجد والتعبير عن نفسها، وكرهت فكرة الاستقواء بالعدد والعدة والإمكانيات.. ربما لا يبدو لهذا العنصر علاقة مباشرة بموضوع الأهلي والزمالك، لكن تفكيري في المسألتين كان متزامنا، ولا أستطيع الفصل بوضوح بينهما، حيث ثمة رابط لا أستطيع أن أضع يدي عليه بسهولة.

3- تبعا لنظرية تشجيع اللاعبين بدلا من تشجيع الفرق، وجدت أن اللاعبين الذين أحبهم وأتابعهم يتزايدون في الزمالك، خصوصا عندما تم انتقال أحمد الكاس من الأوليمبي.

أحمد الكاس

4- لم أستطع عبر مباريات عديدة، أن أتجاهل مجاملات الحكام للأهلي، أو تعنتهم مع الزمالك.. خاصة في موسم 95- 96، كان هذا الأمر صارخا وفجا، وبنهاية ذلك الموسم، وحصول الأهلي للدوري للمرة الثالثة على التوالي، وجدتني أعترف بيني وبين نفسي.. لقد أصبحت أنفر من الأهلي، وأميل لتشجيع الزمالك
المدهش فعلا، أن فترة تحولي من الأحمر للأبيض، كانت هي الفترة التي عاود فيها الأهلي ركوب المسابقة المحلية، وكانت هي الفترة التي شهدت أكثر مواسم الزمالك مأساوية، عندما يتقدم بفارق 14 نقطة، ثم يتقهقر بتتالي المباريات ويفقد الدرع.. ما الذي أدى لنجاح عملية التحويل إذن؟ كيف كانت كل كبوة جديدة للزمالك كفيلة بتشبثي به أكثر؟ وكيف كان كل انتصار جديد للأهلي، كفيل بنفوري منه أكثر؟ لا أملك أي إجابات.. ربما أميل بطبيعتي لتشجيع الطرف المظلوم، أو المضطهد.. ربما أميل نفسيا طوال الوقت لمعارضة الأغلبية.. ربما أكره ذلك اليقين من البعض، أنهم الأفضل والأكمل والأجمل، اليقين الذي لا يراوده شك، ولا ينتابه ضعف، ولا يشوبه تردد، ولا يحتمل إعادة النظر ومحاسبة الذات!

هل عززت ميلي للزمالك، بوجهة نظر سياسية أو فكرية؟ أعتقد ذلك.. لقد أعجبتني فكرة الانتماء لكيان يكافح بشتى السبل كي يتخلص من إخفاقاته.. أعجبتني فكرة أن نعترف بكوننا فاشلين، ثم نحاول النهوض ونسعى للنجاح رغم صعوبته، دون أن يكون ذلك على حساب ما نقتنع به من أفكار.. أعجبتني فكرة أن استقرار الأمور لصالح “الأول دائما” لا يعني أبدا أن “الثاني” لم يعد موجودا، ولا يعني أن الثاني سيتوقف عن محاولة أن يكون الأول، رغم كل المعوقات.. وأخيرا أعترف، أعجبتني فكرة أن أكون ضد التيار، فكلما زاد الأهلي من انتصاراته، ثم تضاعف عدد أنصاره، وبدا الانجراف معهم شديد السهولة، فأن يقاوم البعض هذا الانجراف بثبات وعناد وصلابة، هو موقف يتواءم مع شخصيتي الى حد كبير!

وهكذا.. انتقلت للمعسكر الأبيض عن اقتناع كامل، وبرغبة أكيدة في أن أكون زملكاويا، ولا دليل على صدق رغبتي أكثر من إني انتقلت في ذروة سنين السيطرة الأهلاوية، منتصف التسعينيات، وأمضيت أربعة مواسم في تشجيع الزمالك، قبل الحصول على أول بطولة دوري.. كيف كنت أحتمل ذلك الجفاف؟ كنت مؤمنا بإمكانات الفريق.. كان نادر السيد هو الحارس الأكثر إقناعا في مصر، وحسين عبد اللطيف هو أفضل ظهير أيمن، وكان سامي الشيشيني هو الأفضل في موقع الليبرو، محمد صبري كان موهوبا سيء الحظ، وعفت نصار هو لاعبي المفضل على الإطلاق بمهارته وقوته البدنية وروحه العالية دائماً، وكنت مذهولاً من تجاوزه في اختيارات المنتخب.. هذا الجيل الذي ربما لم يهنأ بحصد البطولات مع مطلع الألفية الجديدة، كان جيلاً يستحق التحية بالنسبة لي، رغم كل إخفاقاته.

الآن، تبدو مفارقات القدر عجيبة للغاية، ابني الأكبر (تسع سنوات) أهلاوي بالفطرة.. كنت حريصا منذ بداية متابعته لمباريات الكرة، ألا أقوم بتوجيهه وأن أرى الى أين ستقوده غريزته.. ربما كان اللون الأحمر هو ما جذبه للوهلة الأولى.. وهو في سن الرابعة، قرر أن يشجع الأهلي، وكان قراره مصحوبا بانتصارات دائمة للفريق الأحمر، لدرجة أنه سألني ذات يوم: بابا أنت بتشجع الزمالك ليه؟ أنا باشوف الأهلي دايما هو اللي بيكسب… وجدت في سؤاله فرصة مناسبة لصياغة حكمة، وحدثته عن أن المكسب الدائم ليس دليلا على الجودة دائما، وأن ارتباطي بفريق الزمالك، لا يجب أن يكون رهنا بكونه فريق يكسب باستمرار، بل هو رهن بكونه فريق “يحاول” باستمرار، “يحاول” باجتهاد حقيقي.. يومها لم يكمل ابني الاستماع لحكمتي ثقيلة الظل، وتشاغل بالعابه.. لكنني الآن أفرح بشدة، عندما أراه يتابع مباريات الأهلي بعين ناقدة، فيقر بأن ذلك الفوز جاء رغم أداء سيء، وأن تلك الهزيمة كانت مستحقة.

نرشح لك: “المتحدة للإعلام” تعلن رد قناتي الأهلي والزمالك إلى الناديين