الشهرة للجميع: الفصل التاسع والعشرون من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

إذا كانت “ديموقراطية الشهرة” تعني أن أصوات الجماهير باتت مؤثرة في تحديد مَن بإمكانه أن يحصد لقب “مشهور” من بين المتطلعين إلى الأضواء الساطعة، فإن “الشهرة للجميع” إشارةٌ إلى أنه أصبح بإمكان الجماهير نفسها أن تحلم بالذيوع ولا تقنع فقط بالنزول من سماوات الشهرة بغنيمة المشاركة بأصواتها المؤثرة في تحديد الذين يستحقون أن تُكلّل رؤوسهم بتيجان الشهرة.

“خمس عشرة دقيقة من الشهرة” عبارة بالغة الدلالة في سياقنا هذا، العبارة منسوبة إلى الفنان الأمريكي آندي وارهول Andy Warhol، لكن البعض يشكك في نسبة العبارة إلى وارهول تحديداً. ويكيبيديا الإنجليزية توثق ذلك التشكيك مشيرة إلى أن العبارة تُنسب إلى آخرين أيضاً: “ادعى المصور نات فينكلشتاين Nat Finkelstein الفضل في التعبير، ذاكراً أنه كان يصور وارهول في عام 1966 من أجل كتاب يتم التخطيط له. تجمعت زمرة من الناس في محاولة للدخول إلى الصور (التي يجري التقاطها)، وقد لاحظ وارهول على الأرجح أن الجميع يريد أن يكون مشهوراً، فرد عليه فينكلشتاين: نعم، لمدة خمس عشرة دقيقة تقريباً”.

نرشح لك: الجمع بين مجالين: الفصل الثامن والعشرون من كتاب لوغاريتمات الشهرة

أيّاً من كان صاحب العبارة، وأياً ما كان المراد منها حين إطلاقها، فقد باتت بالغة الدلالة من ناحيتين: الأولى متعلقة بملاحظة ولع الجميع بالشهرة حتى أولئك الذين لا يملكون من المواهب سوى الرغبة في البقاء تحت الأضواء مع أية سانحة، والثانية أن الجميع أوشك بالفعل أن يحظى بالفرصة لتحقيق حلم الشهرة لمدة قصيرة على الأقل بصرف النظر عن موهبته، وهو ما تشير إليه الكلمتان “خمس عشرة دقيقة”، ما يغري بوصف ذلك النمط من الذيوع بكونه “شهرة عابرة جداً”.

محاولات التأصيل/التتبع التاريخي لثقافة “الشهرة الشعبية”/”شعبية الشهرة”/”الشهرة للجميع” تقود بعض الباحثين إلى الذهاب بأصل الفكرة إلى قرون بعيدة ضمن مختلف الثقافات وذلك بالتوسّع في المراد من “شعبية الشهرة”، ولكن الملامح البارزة للفكرة لا ريب قد اكتملت بوضوح منتصف القرن العشرين. فإذا كانت المقولة المنسوبة لآندي وارهول تعود إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، فإن إلهام تلك المقولة يعود فضله على الأرجح إلى مدرسة “فن البوب” Pop Art التي ظهرت منتصف القرن الماضي في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، والتي يُعدّ وارهول واحداً من أبرز شخصياتها.

ولكن مزيداً من التأصيل/التتبّع للفكرة يرجع بنا بضعة عقود إلى الوراء، إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حيث لمعت فكرة “ثقافة المشاهير” Celebrity Culture في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً. و”ثقافة المشاهير” في الواقع لم تحطّم أسطورة نخبوية الشهرة بقدر ما وسّعت إطار تلك النخبوية فشمل كافة اتجاهات الحياة في المجتمع تقريباً: التمثيل والثقافة والسياسة والرياضة والموسيقى والأزياء وغيرها، وكان ذلك على الأرجح بمثابة التمهيد الباكر الذي ساعد لاحقاً – إضافة إلى عوامل أخرى متداخلة بطبيعة الحال – على استيعاب فكرة “ثقافة البوب” و”شعبية الشهرة” (إشارة إلى تأثير الشعب في تحديد بوصلة الشهرة وإمكانية تربّع المنحدرين من خلفيات شعبية محضة على عروش الشهرة)، وصولاً إلى إمكانية أن يحقق أي فرد من المجتمع حلم الشهرة ولو لفترة عابرة بطريقة ما، وذلك بحيث أصبح نطاق “ثقافة الشهرة” يشمل كل مهنة/كل مجال/كل شيء بما في ذلك ما يمكن وصفه بـ “اللاشيء” بحسب تعبير كثيرين إشارة باللمز إلى كثير من مشاهير الإنترنت ممن لا يفعلون شيئاً سوى عرض تفاصيل حياتهم اليومية على الجماهير.

“خمس عشرة دقيقة من الشهرة” أصبحت متجسّدة بما يقارب المعني الحرفي في فكرة “الترند” Trend، وهو ما يُطلَق على المنشور الأكثر متابعة في الوقت “الحالي” على أي من وسائل التواصل الاجتماعي أو المنصات الإعلامية (التفاعلية) الجماهيرية. “الترند” حظ قد يقنصه مستخدم “عادي” جداً يضع منشوراً يلقى رواجاً غير متوقع في لمح البصر، وبذلك يجذب ذلك المستخدم “العادي” الأنظارَ بمنشوره ذاك لفترة عابرة، وقد يكون المستخدم من الذكاء والحظ النادر بحيث يستطيع استثمار ذلك المنشور الرائج للحصول على شهرة أكثر استمراراً وأبعد عمقاً عبر منشورات وإطلالات طريفة أخرى، وقد يقف الحظ بالمستخدم عند ذلك الحد من الشهرة: خمس عشرة دقيقة، على سبيل التقريب استلهاماً للمقولة سالفة الذكر.

في كتاب How People Become Famous: Geniuses of Self-Marketing from Albert Einstein to Kim Kardashian ، الصادر في ترجمته العربية بعنوان “فن الشهرة: عباقرة تسويق النفس من ألبرت أينشتاين إلى كيم كارداشيان” عن دار العبيكان بالرياض عام 2022، يقول المؤلف راينر زيتلمان Rainer Zitelmann: “في عصر ما قبل الرأسمالية كانت الشهرة امتيازاً وحكراً على النبلاء من أفراد العائلات الملكية.. وأما في ظل الرأسمالية فقد جرت دمقرطة الشهرة، فأصبح الوعد آنذاك أن أي شخص بغض النظر عن مولده أو جنسه أو أصله يمكن له أن يشتهر بسبب إنجازاته أو مهاراته أو موهبته، على سبيل المثال بوصفه ممثلاً أو نجماً للأغاني الشعبية. ولكن اتضح بمرور السنوات أن الإنجاز وحده لا يضمن الشهرة، فينبغي أن يترافق بفن تسويق النفس، الذي يتضمن عرض الإنجازات بصورة صحيحة وتعريف الناس بها، ويُظهر مثال كيم (كارداشيان) بوضوح وعلى نحو خاص أن فن تسويق النفس هذا في عصر الإنترنت فصل نفسه عن الإنجاز الفعلي، وبعبارة أدق: الإنجاز الحقيقي حالياً هو فن تسويق النفس”.

يواصل الدكتور زيتلمان: “ويبرهن نجاح كيم لمعجبيها أنه لا يتعين على الشخص أن ينجح بوصفه مغنياً أو ممثلاً أو راقصاً لكي يصبح مشهوراً، فهناك طريق إلى الشهرة أقصر بكثير، فمن حيث الإمكانية باستطاعة أي شخص أن يصبح مشهوراً، فعليه فقط أن يرغب في ذلك وأن يكرس حياته لهذا الهدف وأن يفهم آليات تسويق النفس ويتقنها”.

أصبح إذن في إمكان أي شخص أن يصبح مشهوراً، ولم تعد “فخامة” الإنجاز شرطاً للشهرة، لكن شفرات الشهرة لا تزال أعصى من أن تُختزل معالجتها عبر النظر في سبب بعينه، وما “آليات تسويق النفس” سوى عامل (جديد؟) انضاف إلى مسببات الشهرة لا ليفك طلاسمها وإنما ليزيدها تعقيداً على الأرجح.

للتواصل مع الكاتب عبر البريد التالي: ([email protected])