"لا تنظر إلى السماء".. أن تسخر من كل شيء وأي شيء

بسام سرحان

استطاع “آدم ماكاي” خلق عالم ساخر واقعي هزلي في آن واحد، لقرابة ساعتين ونصف الساعة من المتعة، استطاع أن يصوّر لك كيف تجري الأمور في العالم كله في تلك الساعتين.

تلك الأمور التي تعرفها جيدا ولكنك لا تراها لأنها خلف الكواليس، فيأتي ماكاي بتلك الكواليس لتراها في تلك التحفة الفنية.

“لا تنظر إلى السماء” فيلم واقعي جدا، يحكي لك كيف تدار دول كبري كأمريكا بكل هزلية ممكنة، وما هي مراكز القوة فيها، وكيف تكون مراكز القوة تلك أغبى مما تتصور، ولا يهمها سوي مصالحها الشخصية على حسابك وحساب كل من حولك إن كنت أمريكيا، حيث تتمثل تلك القوى في رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية التي أجادت ميريل ستريب تمثيلها ببراعة مدهشة، فقد استطاعت تأدية دور الحمقاء الانتهازية، التي تمتلك قدرًا لا بأس به من جنون العظمة بكل خفة ورشاقة، وربما كان أفضل تجسيد لتلك الشخصية في مشهدها وهي تشعل سيجارة وراء لافتة “قابل للاشتعال”، وهي تقول لدكتور راندل ميندي الذي يؤديه ليوناردو دي كابريو “أنت مع الناضجين الآن يا راندل!”.

نرشح لك: صور.. عمرو دياب من العرض التحضيري لمسرحية “في نص الليل”

ويأتي في مراكز القوة التي تحكم أمريكا والعالم بأثره أيضا، رجل الأعمال والمهتم بالتكنولوچيا والذكاء الاصطناعي “باش”، الذي مثّله بكل سلاسة وحيوية الحائز على الأوسكار الممثل مارك ريلانس.

هذا الدور الذي يجعلك تخشى منه وتخشى من هم على شاكلته في الواقع، هؤلاء الذين يطورون التكنولوچيا علي حسابك وحساب أمنك، في سبيل كسب المزيد والمزيد من المال، حتى وإن كان ثمن ذلك فناء الكوكب برمته، فكل شيء “معمول حسابه”، وإن كانت صنعة حساب فناء الكوكب هي تلك السفينة الفضائية التي سوف تنقلهم لكوكب آخر إذا استطاعوا أن يجنوا المال من وراء نيزك يهددك ويهدد الكوكب الذي تعيش فيه، وكل ما عليك فعله فقط هو أن تنظر إلى السماء لترى حقيقة ذلك، ولكنك مُصر على أن تدفن رأسك في ذلك الهاتف الذي صنعه لك باش، مرددا هو ومن معه لا تنظر إلى الأعلى.

أن ترفض النظر للأعلى حتى وإن كان ذلك سبيل نجاتك!
في محاولاتهم المضنية، تقوم دكتور راندال وكيت -جنيفر لورانس- المرشحة لتنال الدكتوراه لاكتشافها هذا المذنب بإقناعك بأن تنظر لأعلى لترى هذا الخطر المحقق، ولتنفصل لمدة ثواني عن مواقع التواصل الاجتماعي لترى حقيقة ما يهددك، وبصحبتهم أيضا د. تيدي الذي أدّاه الممثل البارع صاحب الحضور القوي روب مارجون، الذي رد علي د. راندل -دي كابريو- حينما تعجّب من قرار رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية، عندما قررت أن من يقوم بعملية تصحيح مسار المذنب لإنقاذ الكوكب بطل جيش أمريكي عتيق بأنه “لا داعي له فبإمكان العملية أن تتم بأجهزة تحكم عن بُعد”، فيرد عليه تيدي -مارجون- بأن “أمريكا تحب دوما أن تأتي بأحد ليلعب دور البطل”، في سخرية واضحة عن أفلام أبطال أمريكا التي تعودنا عليها من هوليوود منذ الصغر! ثم يأتي وقت العملية ويثني هذا البطل خلالها على الأمريكيين جميعا والهنود منهم والمثليين، ولا يأتي بذكر السود منهم، فيشعر د. ميندي بالضيق لهذا في ثوان جاءت الكاميرا على وجهه فيها.

كيف جعل ماكاي شخصية مملة بأن تكون محورية بتقديم دي كابريو فيها بشكل مختلف عن باقي أدواره السابقة؟
استطاع دي كابريو أن يلعب دور عالم فلك ذو شخصية نمطية جبانة تعاني من اضطرابات نفسية عدة، والكثير من نوبات الهلع، فيأتي على إثرها أخذ الزانكس والزوفلت وإصابته بزيادة الوزن والعجز الجنسي لما تفعله تلك الأدوية من أثار جانبية خطيرة.

استطاع آدم ماكاي أن يسلط الضوء على هذه الأمراض النفسية، التي أصبحت أمراض العصر بأدويتها بآثارها الجانبية من خلال دور دي كابريو بلطافة مبهرة، فيتأرجح دي كابريو طبقا لشخصيته تلك في النصف الثاني من الفيلم بين الكفتين؛ كافة الحق التي تبناها في البداية مع زميلته كيت وحياته الروتينية المملة مع زوجته وأولاده، وكفة الضلال الممتلئة بالمغامرات والغرق في الملذات، ونسيان ما يمر به من هموم التي فتحتها له المتميزة في دورها كات بلانشيت -بري افانتي- المذيعة المضللة التي تضلل الجمهور عن الحقيقة لتحقيق المكاسب السياسية لسطلة ميريل ستريب وباش، غارقاً في أحضانها بعدما تحرشت به واستطاعت إغوائه فيقع في تلك الكفة، ويكون مستشار البيت الأبيض للعلوم ويروج لمكاسب هذا النيزك للأرض. كما تتبنى الحكومة وباش وجهة النظر تلك، حتى يرى حقيقتهم ويفيق مما يفعله حينما يصدمه باش بأن أجهزته المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التي تستطيع أن تعرف كيف يموت المرء، قد عرفت أنه سوف يموت وحيدًا فيخشى ذلك الواقع، ويهرول ناحية زوجته التي تركها من أجل “متحرشة” تفخر بممارستها الجنس مع رئيسين سابقين، في مشهد هزلي رائع يتعجب دي كابريو فيه من ذلك، ويثني على ذلك الإنجاز وحده وسط قائمة من الإنجازات التي ترسلها له.

جينيفر لورانس وتيموثي شالاميه والتجسيد التلقائي دون تكلف
أما جينيفر لورنس -كيت- فهي الشخصية المنفعلة المحافظة علي مبادئها مهما بلغت التكاليف، التي لا تخش أن تقول لرئيسة أمريكا في وجهها إنها انتهازية، ولا تخش أن تقول الحقيقة للعوام من الناس بأن الحكومة انتهازية لا تعبأ بهم ولكنها تعبأ بمصالحها فقط، وتفعل ذلك بكل انفعالية حمقاء على شاشات التلفاز، حينما تصرخ في وجوه الناس فينفرون منها ويطلقون عليها الكوميكس، وتصبح “ميم شعبي” يسخر منه الكل ولا يلتفتون لكلامها، الذي لو التفتوا له لثانية واحدة سوف يعرفون حجم الخطر الذي يحدق بهم، ولكنهم يفضلون الضحك على أي حال، فينتهي بها الحال مع مجموعة من الشباب الطائش في “خرائب” ايلنوي، وتلتقي بهذا الشاب الذي جسده تيموثي شالاميه -يولي- ويعجب بها وبجنونها، وترى هي أن هذا العالم يلائمها، ويطرح تيموثي رغم صغر حجم دوره مقارنة بباقي النجوم إشكالية دُفنت في العالم المادي الذي نغرق فيه، ألا وهي الإيمان، ويعترف لها بأنه يؤمن بالله ويطلب منها ألا تفضح أمره.

النهاية.. صدق النوايا والأفعال ينقذك
في نهاية المطاف بعدما تفشل لورانس ودي كابريو بإقناع الناس والحكومة والإعلام بخطورة الموقف، بأن ينظروا للأعلى ليروا هذا المذنب، فيقرروا الاستسلام لنهاية العالم ولكن بكل حب ودفء وإيمان حينما يقرر هو وهي وزوجته وحبيبها وصديقهم الأسود د. تيدي أن يموتوا سويا على مائدة الطعام، ويُصلي بهم حبيبها المؤمن، متشابكي الأيدي، وشاعرين بالفخر لأنهم حاولوا.. في لفتة رمزية بأنهم قد اختاروا طريق المعاني، وركلوا المادية والتكنولوجيا، لنرى دي كابريو نتيجة لحسن نواياه استطاع أن يغير الطريقة التي تنبأت بها التكنولوجيا بوفاته، ليموت وسط أحبابه جميعاً!

أما سيئوا النية والأفعال فقد تم دهسهم بفعل طائر عجيب علي كوكب آخر هرعوا إليه، مثلما حدث مع رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسة أورلين – ميريل ستريب – بعدما فرّت إلى كوكب آخر بصحبة باش وأغنياء القوم، تاركة ابنها جاسون على الأرض الذي لعب دوره -جونا هيل – (وقد أضاف كثيرا من الحوارات والمواقف الكوميدية اللطيفة في الفيلم خصوصا مع جينيفر لورانس).

في النهاية..
النهاية واحدة والموت حقيقة، ولكن نواياك وأفعالك الحسنة هي ما تحدد كيف تكون نهايتك.