فريد الأطرش.. أن تصنع المجد الموسيقي بـ"المحبة"!

ابتسام كامل

فرق كبير بين آخر أفلام فريد الأطرش فيلم “نغم في حياتي” الذي عرض عام 1975، وفيلم “انتصار الشباب” كأول فيلم مثّله عام 1941، بطولته مع شقيقته أسمهان ونخبة نجوم من الزمن الجميل، وتوليفة الفيلم الذي ترك مشاعر متنوعة من التفاؤل والأمل بقلبي رغم مرور 80 عاما على هذا العمل الجميل! فلم يتغير فريد.. نفس روحه الممتلئة شجنا نقيا، وابتسامة تفاؤل ومشاعر ترحاب بالدنيا يستطيع أي أحد قراءتها ضمن الأحاسيس الحقيقية المتكررة لهذا الفنان في مسيرة كفاحه واجتهاده!

فريد ولوركا

منذ عام 1941 وفريد يطل علينا في أفلامه بنفس شخصية المطرب الحائر الفقير، كموسيقار شاب يحلم بتقديم أوبرا كتبها بنفسه، ويريد من ينفذها له عبر أفلامه الغنائية. يصاحبنا بنغمة حلوة حائرة تبحث عن لحن كبير يضع فيه ذاته الفنية، والحمد لله أنها لم تستقر أبدا، وإلا كان توقف عن البحث وتوقف عن إمتاع الفن بما يجول في نفسه من سمو حائر ظهر واضحا بفيلم “انتصار الشباب”، وكيف كان فريق الأروكسترا الأوبرالي يعزف المصاحب لأوبريتاته الأولى، وينتظم في عمل متكامل يكشف أن وراء وجه هذا المطرب المبتسم الصبوح، طيبة ونبل، جعلت بعض محبيه يشبهونه بالشاعر والروائي والرسام والملحن والبيانيست الأسباني لوركا، الذي ولد ومات في غرناطة بين 1898 و1936.. ربما كان له دماء في نجد واليمن حيث يمتد نسل الموسيقار فريد الأطرش!

نرشح لك: الكدواني ليس السبب الوحيد.. لماذا أحب الجمهور “موضوع عائلي”؟

ورغم تغير موضوعات أفلامه الغنائية بعد فيلم “ازاي أنساك” عام 1956، إلا أن نغمته الحلوة تكررت في روح ألحانه، باعتبارها تيمته الخاصة، يعبر بها عن رسالة فنه بموسيقاه واختياراته الغنائية التي تشدو بالحب والرضا وحب الحياة والاتكال على الله.. والصداقة والفقد والموت، حتى أغاني المرح نجح في نقلها لجمهوره الذي توحد معه ليومنا هذا! بصوته التينور الذي يصنفه الموسيقيون بأنه يبدأ من الوصل السلم الأول ويصل إلى صول السلم الثالث بمقدار 14 درجة، وهي ميزة قليلة عند الرجال إلا بعض الأوبراليين في الغرب، لكنهم لا ينزلون إلى القرار لئلا يفقدون حنو صوتهم، بينما لم يفقد فريد حنو صوته!

لم ينهض فريد الأطرش بالموسيقى العربية فقط، بل نهض بالرقص الشرقي أيضا، وابتكر مع سامية جمال أرقى وأرق تابلوهات جعلتنا نرى الرقص الشرقي آلة موسيقية أخرى يطوعها بألحانه فوق جسد سامية، الذي لا أعتقد أن شخصا رآها تثير الغرائز بقدر ما رآها ترسم لوحة ماهرة للتعبير عن الألحان بخلجات جسدها الرشيق، مثلما فعلت في أوبريت الشرق والغرب بإبداع منقطع النظير.

هرم العرب الموسيقي

وراء كل عبقرية حلم ورؤية يغذي وجودها، وكان فريد -لنشأته السياسية- يحلم بتوحيد الأمة العربية، واعتبار فنه جسر الذهب للوصول لذلك الحلم الذي ظهر ببعض أعماله الاستعراضية، في ظل حلم آخر ظل يراوده ويثير قلقه الفني، وهو أن يستمع العالم كله للموسيقى الشرقية، وهو بالفعل ما حدث، وصار فريد الأطرش الموسيقار العربي الوحيد الذي تترجم ليومنا هذا كلمات أغانيه لتناسب ألحانه بمختلف البلاد. وهو ما فسرته المطربة الفرنسية مايا كازبيانكا، بأن موسيقى فريد الأطرش هي روح الشرق وعبيره ونسيمه، فغنت له فقط من بين كل الموسيقيين العرب، حيث وجدت ألحانه ذات طابع عالمي بما يمتلك من موهبة شرقية مقبولة عند الأذن الغربية، وأنماط غربية مقبولة عند الأذن الشرقية! فوصفه فرانك سيناترا بأنه “هرم العرب الموسيقي”، وأكد إلتون جون أنه “لا موسيقى تقربنا إليكم في الشرق إلا موسيقى فريد الأطرش”.

وقبل رحيله، ذكر إلفيس بريسلي أنه “لم يكن يعلم أن العرب يمكنهمم أن يضاهوا الموسيقى العالمية.. إلا حينما سمع فريد”. وقال عنه شارل أزنافور: لو عاش بيننا لقضى علينا جميعا. أما خوليو اجلاسياس فقد ذكر أن صوت فريد الأطرش ساحر لا يبلى. ويقول عنه انريكو ماسياس: هو عبقري عالمي لا عربي فقط… كما ذكر الاستاذ أحمد السماحي، بالأهرام.

والحقيقة، لطالما شغلني السؤال عن سر تمتع فريد الأطرش بمحبة جمهوره له ليومنا هذا؟ فلم يجتمع جمهور على فنان مثلما يجتمع عشاق فريد عليه، رغم أنه لم يتردد عنه أي وصف بالذكاء الاجتماعي، ولا يمكن أن تكون مساهاماته الخيرية والإنسانية هي السر وراء نجاحه كفنان. صحيح أنه عاطفي وحساس ورقيق القلب، وهي صفات جميلة لشخص نمر به مرورا، بل تعتبر صفات مزعجة هذا الزمان، وكل زمان! حيث أغلب الظن أن مجموعات الظل التي كانت تعشق إثارة التنافسات الفنية بين عبد الوهاب وفريد الأطرش، كانوا يشيرون إلى مرضه وآلامه كمعوقات حاول بعضهم استخدامها ضده، حتى انتماءه للدروز بحكم نشأته.. الذي أعتقد -شخصيا- أنه لولا تمتعه به لما حافظ على تواضعه ولما حاول إثبات جدارته بفنه وليس بعرقه أو ملته!

طيبته سر نجاحه

ولكن ما من شك أن الإنسان الذي يعرف قيمة موهبته، وينشأ في بيئة صالحة تكرس قيم الكرم والأخلاق والحنو والتواضع، هو الذي يبدع ويؤثر في العالم، ولولا تميز بيئة فريد بهذه الامتيازات متضافرة مع ذكائه الفني اليقظ ونبل إحساسه الإنساني لما نجح منذ عزف بالعود وراء داود حسني والمطرب ابراهيم حمودة، وغنى في صالة بديعة مصابني، ليومنا هذا في مسيرة تزيد عن 80 عاما ولا يزال هو موسيقار الشرق والغرب.. بل ويتذكره الناس بعد وفاته بسبعة وأربعين عاما، ويبحثون عن موسيقاه! لولا تميزه بصفات أخرى.. أهمها كرمه وأخلاقه وحنوه وتواضعه. تلك الصفات الخام الني تشكل جوهر الخير والعذوبة الموجهة من الله للإنسان في صورة موهبة، تنضج بإخلاص صاحبها وتصبح رسالة كما عاشها فريد!

شخصيا، أؤمن بمقولة جان بول سارتر التي يقول فيها أن الناس الأذكياء جدا لا يمكن أن يكونوا أشرارا، لأن الشر يتطلب غباء ومحدودية في التفكير، ومن يتعرف على شهادة أشهر من تعاملوا مع فريد من الفنانين سيدركون بالفعل كم كان هذا الفنان ذكيا بهذا المفهوم، فلم يحتاج أن يكون شريرا لأن الطيبة هي المادة الخام لإفراز المواهب. وصفه الفنان محمد سلطان بأنه كان كريما وشهما جدا وطيب القلب، لو قابله شخص بسيط في الشارع وطلب مساعدته كان من الممكن أن يعطيه ما في جيبه، حتى لو لم يكن يعرفه. وذكر الموسيقار محمود الشريف أن فريد لم يكن غيورا بأي حال من الأحوال. ولا كان حاقدا أو شريرا، أو خبيثا، بالعكس.. كان طيبا نقي الضمير، دائما صافي النفس!

وشهد له الموسيقار عبد العظيم عبد الحق بأنه كان يجبر أي إنسان على احترامه، ويتصرف كالملوك والأمراء، بما يمتلك من صفات كالكرم الزائد والطيبة التي لا حدود لها، وعاطفيته التي أحب بها الناس وفنه كثيرا. أما الموسيقار محمد الموجي فقال إن فريد الأطرش كان فنانا وإنسانا صادقا، وسط إطار يخلو الصدق منه تماما.. بل يملؤه الكذب. مستطردا: ولكني لم أر إنسانا طيبا ومخلصا وصادقا في مشاعره مثلما رأيت الفنان فريد الأطرش. كان صادقا للغاية حتى في الطريقة التي يصافح بها أو يقبل بها صديقا له. إن اليد الممتدة والكلمة المرحبة والابتسامة الصافية.. كلها تؤكد أن صاحبها لا يفتعل شيئا ليس فيه. ولا يرتدي قناعا على عواطف يخلو منها، ولا يرسم على وجهه ترحيبا لا يحس هو به! أما الموسيقار احمد فؤاد حسن فقال إن فريد ظاهرة فنية وإنسانية لا تتكرر، وهذه الظاهرة لا يمكن أن يحسها إلا من عايش فريد عن قرب، فقد كان تجسيدا حيا للحب والإخاء والصداقة بلا أي غرض.

أنا.. مقال بقلم فريد الأطرش

عن نفسه، كتب فريد مقالا بإحدى المجلات المصرية القديمة، بعنوان “أنا.. بقلم فريد الأطرش”، قال في بعضه:

“أنا فريد الأطرش الموسيقار والممثل.. ولو وضعني القدر في غير موضعي هذا لكان غير منصف، ولما أحسست بطعم الحياة. لقد خلق مني الفقر فنانا يشعر، ويحس بآلام الغير، وخلقت مني المتاعب هذا الرجل الذي يريد من صميم قلبه أن يزيل عن الناس المتاعب ويزحها عن طريقهم.

وكان عودي هو منبع ثروتي ومجدي، هذا العود الذي بثثته آلامي وأحلامي، فنطق، وعندئذ شعرت أن الأبواب المغلقة تفتح أمام آهات وتوسلات وأغاريد عودي. وأحسست أن هذا العود له رسالة وأنه يستميت في سبيل أدائها. وحتى يصل إلى تحقيق غايته وهي غاية وطنية سامية.. أن تحتل الموسيقى الشرقية مكانا بين موسيقى الغرب. وكان صوت أختي أسمهان هو محور رسالته، وتقبل الناس اللحن والصوت الملائكي، وأحسست – أنا المغمور في الجوع والمحاولات الفاشلة – أنني ملهم وموضع انتباه الناس، وزاد هذا الإحساس في إلهاب مكامن وحيي وإحساسي العميق بثورتي الفنية التي تعتمل في جوانحي، وبدأتُ ألحن لها ولنفسي.

وبعد، فهل أنا سعيد؟ أعترف أنني مدين إلى الله تعالى بكل شيء بهذا النجاح وهذا الحب الذي يغمرني به الجمهور. والسعادة هي آخر شيء يفكر فيها الفنان، فيكفيه لكي يكون سعيدا البال أن يرى الناس سعداء!”

سلام إلى فريد الأطرش الذي ساهمت شيمه النبيلة في صنع مجده..