محمود الورواري يكتب: فصل من يوميات الحضور عند محمود درويش!

سبعة أعوام على فراقك فى المكان وحضورك فى الوجع.

«الحضور فى المكان يستدعى أصحاب المكان».

هكذا أجابنى محمود درويش ذات لقاء قاهرى جميل حين سألته:

لماذا لا تتذكَّرنى صديقى إلا حينما تجىء إلى القاهرة؟

قلت له وأنا أتأمل تلك الابتسامة التى تشبه حليب الصباح «وأنا أتذكرك دائمًا فى أى وقت وفى أى مكان لأنك ببساطة تملأ بحضورك كل الأماكن وتثرى الزمان».

كان هذا المنولوج حاضرًا يغزونى ويحتلّنى وأنا أقف على قبره الساكن وسط مجسم قرية «البروة» التى ولد فيها فى 13 مارس عام 1941، تلك القرية التى حُرم منها وهو حى فأراد محبوه أن يُسكنوه فيها ميتًا.

هى محض لعبة وهمية للوطن المستعاض.

قريتك وكل الجليل وساحل عكا وفلسطين الجغرافيا والتاريخ والناس والأحلام والوجع وزهر اللوز وأشجار الزيتون ورائحة التين كلها سكنتك حد الامتلاء والوجع، فكنت أنت الناطق باسمها وما زلت.

كان اقتلاعك من قريتك اقتلاعًا مراوغًا، غادرتها مجبرًا ضمن قوافل المهجرين عام 48، فأوصلك الطريق إلى لبنان، وفى الطريق يتذكَّر مَن رافقوك من أصدقائك أنك كنت تسير بظهرك، لم ترد أن تولِى ظهرك لتلك القرية الرحم الذى خرجت منه وإليها.

كانت دموعك يا صديقى تنز بفيض مخيف ومعها براءة طفولتك الحزينة، كنت غارقًا فى الطفولة العمر وليس الإحساس، فقد أصبحت شيخًا وأنت فى السابعة، وأنت تسجّل لحظة اقتلاعك الأولى وهجرتك الأولى وأحزانك الدائمة.

وقتها رأيت دون ريب الأشجار وهى تبكى، والورود تتطأطأ رأسها حزنًا، رأيت الأسفلت يثور ضد أحذية الاحتلال، والشمس تكشر عن أنيابها، من وقتها أصبح الكون كله حيًّا أمامك، أصبح جنودًا يتحدَّثون باسمك، ونطقت أمامك الحجارة والورود.

هجروك إلى لبنان الجميلة ولم تنسَ يومًا قريتك، فعدت إليها مع أسرتك متسللين وأنت محملًا بفيض من الشوق المخزون، حنان القرية ورائحة خبز أُمك، وطعم قهوتها الصباحية، عبق الزعتر والياسمين الممدد فوق أسوار البيوت كلها تنتظرك.

لكن حين وصلت لم تجد نفسك، لأول مرة كنت تعرف أن الجغرافيا تزول، الجبال والبحار تضيع فى عبث الزوال، لم تكن «البروة» موجودة، أُبيدت، شنقوها على أحبال الاحتلال، أطلقوا عليها الرصاص المُر، وحلّ محلها طوب أسمنتى كورم سرطانى ظهر فجأة، حلَّت محلها قرية إسرائيلية قالوا لك إن اسمها «كيبوت يسعور»، كان الطفل الذى كنته ساهمًا، متأملًا ريتمَ أداء تلك الحياة!

كيف تموت البلاد؟ وكيف تُسرق؟

ما الشبه بين «البروة» وبين «كيبوت يسعور»؟

لا شىء سوى أن قرية مسعورة أكلت قرية بعمر التاريخ وابتلعتها!

ذهبت مع أهلك إلى قرية «الجديدة» ليسير بك قطار العمر، وكلما أوغل فى السفر وفى الطريق ارتفع صوتك، وتحوّل فى أحايين كثيرة إلى صراخ، فاعتقلوك يا صديقى، وهناك خفت كثيرًا من فكرة الابتلاع، خفت أن تتحوَّل جدران سجون الاحتلال إلى فم كبير يبتلعك بالليل وأنت الواقف على أول طريق الشباب والفتوة، عشرينى كنت وسبعينى أحسست.

ظللت هكذا من الاعتقال وإلى الاعتقال تعود حتى خرجت تبحث عن فضاء أوسع يليق بصوتك، بعد أن كبر المارد الساكن فى الحنجرة ورفض الانصياع إلى فكرة القمم والسجان.

لاجئًا كنت، وأنت فى الثلاثين من عمرك، تحاول كثيرًا نزع ذلك اللقب الحزين عن جلدك فلا تستطيع، قدرك المكتوب فى الأزل أن تعيش هكذا وتموت غريبًا.

إلى روسيا والقاهرة وبيروت وقبرص وباريس وأمريكا وكل مكان تذهب إليه وفى القلب قريتك التى راحتك ووطنك الذى تلاشى.

حين جاءك الموت فى عام 98 حين أجريت عملية قلب مفتوح فى باريس جاء يطل برأس خجول يقول لك «آن الأوان».

فقلت له:

«فيا موت انتظرنى ريثما أُنهى تدابيرَ الجنازة

فى الربيع الهش حيث وُلدتُ

حيث سأمنع الخطباءَ من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين

عن صمود التين والزيتون فى وجه الزمان وجيشه».

فقال لك الموت:

أنا القدر والمخطوط فى لوح الله.

فرددت عليه:

«لم أولد لأعرف أننى سأموت

بل لأحب محتويات ظل الله.

يأخذنى الجمال إلى الجميل».

كان الموت فارسًا نبيلًا مع درويش لم ينقض عليه بغتة، ولم يأتِه ليطعنه ويستل روحه من الخلف، بل تركه وغادر، عشرة أعوام أخذها درويش من فم الموت، منذ عملية القلب المفتوح التى أُجريت له فى 98 فى باريس حتى 9 أغسطس من عام 2008، حين قال القلب الرقيق كفى وجعًا، آن الأوان لأستريح!

نام درويش على سرير غارق فى البياض المستفز فى مركز تكساس الطبى فى هيوستن تكساس، واستسلم، قال الأطباء إنها غيبوبة طويلة، ما كانوا يعرفون أن درويش ينفذ اتفاقًا وقع منذ عشرة أعوام بينه وبين الموت، حين استفاق قليلًا قال لهم انزعوا عنى أنابيبكم وأزراركم، وحوّلوا الموت السريرى إلى موت حقيقى.

«دعونى فلم يمت أحد تمامًا

تلك أرواح تغيَّر شكلها ومُقامها».

أغمض عينيه تراكًا وصيته لتفاصيل الجنازة، قال فيها:

«صبونى بحرف النون

حيث تعب روحى سورةَ الرحمن فى القرآن

وامشوا صامتين معى على خطوات أجدادى

ووقع الناى فى أزلى.

ولا تضعوا على قبرى البنفسجَ

فهو زهر المحبطين يُذكرُ الموتَ بموت الحب قبل أوانه.

وضعوا على التابوت سبعَ سنابل خضراء إن وُجدت.

وبعض شقائق النعمان إن وُجدت

وإلا فاتركوا وردَ الكنائس للكنائس والعرائس..!»

….

لم يكن القبر الساكن فى مجسم قرية «البروة» قبرًا صامتًا، كان يختًا من نور يتلألأ فى الوجود، ينقل الركاب من زمن الفناء إلى زمن الحضور، وكان درويش سيدهم، وسيدًا للحضور.

سألته، كيف وجدت عالم الأموات؟ فلم يمت أحد ويرجع كى يخبرنا بما رأى؟

فأعاد لى نفس ابتسامته المغزولة من حليب الصباح، وقال:

«كل شىء أبيض

البحر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء

كنت ولم أكن أنا وحيد فى نواحى الأبدية البيضاء

جِئت قبيل ميعادى

فلم يظهر ملاك واحد ليقول لى:

ماذا فعلت هناك فى الدنيا؟

ولم أسمع هُتافَ الطيبين

ولا أنين الخاطئين، أنا وحيدُ فى البياض.

لا شىء يُوجعنى على باب القيامة.

لا الزمان ولا العواطف، لا أحس بخفة الأشياء

أو ثقل الهواجس.

لم أجد أحدًا لأسأل:

أين أينى الآن؟ أين مدينة الموتى؟

وأين أنا؟

فلا عدم هنا فى اللا هنا… فى اللا زمان.

ولا وجود».

……

وجاء عام ميلادك السابع فى العالم الآخر، وعامك السابع لفراقك لعالمنا الوهمى الكئيب، ولم ينقصنا شىء منك فأنت تملؤنا حد الحضور فى تفاصيل الألم وتفاصيل الفرح.

«هذا هو اسمك، فاحفظ اسمك جيدًا

لا تختلف معه على حرف

ولا تعبأ برايات القبائل.

كن صديقًا لاسمك الأفقى

جرّبه مع الأحياء والموتى

ودربه على النطق الصحيح برفقة الغرباء».

……..

سلامًا أيها الباقى سلامًا
نقلًا عن موقع “التحرير”

اقـرأ أيضـاً:

المشهد الذي تمنى نور الشريف عرضه يوم وفاته

فاتن الوكيل تكتب: نور الشريف كل هؤلاء وأكثر

18 خبر من جنازة نور الشريف

محمود ياسين يكتب: نور.. وأنا

23 معلومة عن نور الشريف

مشوار نور الشريف في 30 صورة  

وصية نور الشريف للفضائيات المصرية

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا