من الشِعر للسلاح والحرب.. كيف كشف اللقاء الصحفي الأول شخصية المشير طنطاوي؟

إيمان مندور

لم يسبق للمشير الراحل محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع والإنتاج الحربي الأسبق، أن أجرى أي حديث صحفي، سواء منذ توليه مسئولية وزارة الدفاع في مايو 1991، أو قبل ذلك على امتداد تاريخه العسكري الذي بدأ منذ أبريل 1956، ولولا مناسبة احتفالات أكتوبر التي تأتي كل عام حاملة معها عبير النصر الذي حققته قواتنا، ما كان قد قبل إجراء مقابلة صحفية لأول مرة في حياته مع الكاتب الصحفي صلاح منتصر بمجلة “أكتوبر”، نُشر بتاريخ 6 أكتوبر 1991.

نرشح لك:أبرزها عن فترة قيادته.. 10 تصريحات للرئيس “السيسي” عن المشير طنطاوي

كواليس أول حوار صحفي لوزير الدفاع

اعترف صلاح منتصر أنه عندما رأى المشير بصوته وأفكاره وآرائه في خلال ساعة ونصف، هي مدة اللقاء، أدهشه کثيرا، فهو قائد مرتب الأفكار، واضح المعاني، حاضر المعلومة يعبر عن رؤيته بهدوء وبغير ادعاء، ورغم طلاقة أفكاره وسلامة لغته واستشهاده في بعض الأحيان بأبيات من الشعر القديم، إلا إنه من المؤمنين بأن المسئول العسكري ليست مهمته الإدلاء بالأحاديث الكثيرة، وإنما القيام بدوره بعيدا عن أضواء الإعلام رغم ما فيها من مغريات، خاصة إذا لم يكن هناك حدث يفرض عليه أن يتحدث عنه.

وليس معنى هذا أن دور القوات العسكرية بعيد عن الناس، بل على العكس، فعندما تنظر إلى خريطة العالم – هكذا قال المشير لمنتصر آنذاك– فإنك تستطيع أن ترى أن التطورات الحديثة قد حتمت وجود سلسلة في كل دولة تقريبا تجمع بين ثلاث حلقات “السياسة والاقتصاد والعسكرية”، كل منها في خدمة الأخرى، ونجاح أي دولة هو في تحقيق التوازن بين الحلقات الثلاث.

نرشح لك:الرئيس “السيسي” ينعي المشير طنطاوي

المشير طنطاوي – الذي كان في رتبة فريق أول إبان إجراء الحوار الصحفي وقتها – أكد أن مهمة التوازن هذه ليست سهلة، فنحن نستطيع بسهولة أن نكتشف نماذج من دول عظمى عسكريا لكنها فشلت في تحقيق قوتها العسكرية اقتصاديا رغم دورها السياسي، فكان أن اختل الأمر فيها وتعرضت لمخاطر الانهيار. وأشار إلى نموذج آخر لدول كانت تبدو اقتصاديا قوية، ولكن ضعف حلقتها العسكرية عرضها للضياع، وهو ما يؤكد ضرورة التوازن بين الحلقات الثلاث: السياسية والاقتصاد والعسكرية.

حوار عسكري صريح

الحوار كان ثريا للغاية، وتناول موضوعات شتى، بدءًا من حرب تحرير سيناء، مرورا بما فعله صدام حسين في الجيش العراقي، وتفاصيل حرب تحرير الكويت التي اشتركت فيها مصر انطلاقا من مبادئها الثابتة في الوقوف إلى جانب الحق والعدل، وكيف أن تحرك مصر في تناول الأزمة كان شاملا في أبعاده ومجالاته، وأنه بالرغم من العلاقات المتشابكة والمتعددة مع العراق قبل بدء الأزمة، سواء في إطارها الثنائي أو في إطار مجلس التعاون العربي، فإن التزام مصر القومي تجاء الأمة العربية تجسد بوضوح في تغليب المباديء على المصالح، وهو ما ظهر في دورها الواضح في حل الأزمة.

طنطاوي أكد أيضا بوضوح خلال الحوار أن القوات المسلحة قطاع وجزء رئيسي من نسيج الدولة، وفي كثير من الأحيان يكون تقدم وتطور القوات انعكاسا صادقا لمدى التقدم العلمي والثقافي الذي تتمتع به تلك الدولة، وأي قوات مسلحة ذات تنظيم عال ومستوي علمي متقدم يمكنها أن تمد الوطن بمواطنين على درجة عالية من العلم والخبرات المكتسبة في المجالات المختلفة، وهذا ما يحدث داخل قواتنا المسلحة.

 

 

أيضا في حواره الصريح، تحدث بوضوح عن تأثير نوعية السلاح وهويته على سياسة الدولة وقواتها المسلحة، وكيف أنه أحد أدوات تنفيذ العقيدة القتالية لأي دولة، ومن العوامل المؤثرة في نجاح تطبيق تلك العقيدة، لذلك كل دولة تحرص على امتلاك أفضل سلاح يحقق لها هذا الهدف. كما أشار إلى الأسباب التي أصبحنا بسببها أحد رواد العالم في استخدام أنظمة التسليح المتعددة الجنسيات.

الحوار التليفزيوني الوحيد

المشير الراحل، معروف عنه أنه رجلٌ قليل الكلام كثير العمل، لذلك لم يكن ظهوره الصحفي والإعلامي إلا مرّات نادرة طوال تاريخه، لدرجة أن الإعلامي مفيد فوزي يتفاخر حتى الآن بأنه أجرى الحوار التليفزيوني الوحيد مع المشير طنطاوي، ووقتها حصل قبل اللقاء على معلومة من اللواء سمير فرج بأن المشير الراحل متذوق جيد للشعر، لا سيما أشعار أبو الطيب المتنبي، فحضر مفيد فوزي اللقاء ومعه “لفّة” في يده، فتحها أمام المشير، وإذ بها دواوين للمتنبي.

كان مدير المخابرات حاضرًا أثناء المونتاج وأبدى اعتراضه على لقطة وجود الكتب التي أهداها مفيد فوزي للمشير، لكن مفيد، وبحسب تصريحاته التليفزيونية قبل 3 أشهر، أوضح له أنه بهذه “اللقطة” يخاطب ثلاثة؛ وهي الوحدة العسكرية التي يقول لها إن المشير لديه الذوق الأدبي الرفيع، ويخاطب المثقفين الذين يدركون أن وزير دفاع مصر مؤمن بشاعر له الحكمة والعقل والرصانة، ويخاطب البسطاء في الشارع الذين يدركون تمامًا أن وزير الدفاع ليس مجرد رجل عسكري لكنه يلم أيضًا بالشعر”.

وأكد فوزي بأن دوافعه أقنعت مدير المخابرات في نهاية المطاف بعرض ما وصفها بـ”لقطة الكتب”، موضحًا أن الحوار كان له مرود مميز للغاية بعدما عرف الجميع أن المشير طنطاوي مُتذوِّق جيد للشعر.

في النهاية، يظل هذين اللقاءين النادرين للمشير الراحل محمد حسين طنطاوي علامات بارزة في محاولات التعرف على واحد من أهم القيادات العسكرية في تاريخ مصر الحديث، وكيف أنه ترك أعماله وإنجازاته تتحدث بدلا منه، بل وتفانى في خدمة الوطن لدرجة جعلتنا نرى مواقفه الحاسمة قبل كلماته… فـ رُب كلمة قد تثير الحروب، ورُب كلمة تنهيها، وهو هو المشير طنطاوي جاء ورحل محافظا على أمانة الكلمة وهيبتها.