معتز عبد الرحمن يكتب: قصص الآيات.. تماحيك "وطنية".. ودلالات سلبية

كيف يمكن للتكلف في الاستدلال التاريخي أن يأتي بنتيجة عكسية؟

كيف نتسبب في إيصال معاني سلبية وإن كان دون قصد أو بقصد الفكاهة؟

بداية السطور القادمة ليست تقييما شاملا للمسلسل الكارتوني (قصص الآيات في القرآن الكريم) ، فليس ما سأشير إليه بالسلب هو كل ما يستحق الإشارة إليه ، وفي نفس الوقت لا يعني أنه الغالب أو أنه لا توجد إيجابيات في المسلسل الذي لم تكتمل حلقاته بعد.

أشهر الأخطاء التي تحدث عادة في الأعمال الدرامية “الدينية التاريخية” هي عدم التدقيق في ثبوت الروايات ، وتدخل خيال المؤلف في صياغة الأحداث بالزيادة والنقصان بشكل يجعلها تحيد عن الحقيقة ، ومسألة تجسيد الصحابة ذات الجدل الفقهي المعروف ، ثم توظيف القصة التاريخية في خدمة رسالة العمل الفني وهدفه ورؤية المؤلف والمخرج، وقلما يخلو عمل منها جميعا ولكن بنسب مختلفة من عمل لآخر، وما سأشير إليه فقط في هذا المقال بالنسبة للشق التاريخي أمور متعلقة بالنقطة الأخيرة وهي مسألة التوظيف، أما الشق الخاص بقصة المسلسل المؤلفة (الحاضنة لقصص الآيات) فلها بعض الدلالات السلبية التي أشير إليها أيضا.

عرض المسلسل في الحلقتين الأولتين قصة الصحابي الجليل البدري حاطب بن أبي بلتعة وذلك في سياق تناول حلقات المسلسل لقضية البحث عن جاسوس عُثر قدرا على إحدى رسائله المربوطة في قدم حمامة زاجلة ، وقصة حاطب رضي الله عنه كما جاءت في صحيح البخاري باختصار أن النبي صلى الله عليه وسلم – قبيل فتح مكة – أمر عليا والزبير والمقداد أن يذهبوا إلى مكان يدعى روضة خاخ وسيجدون فيه امرأة معها رسالة فليأتوا بها ، وإذا بالرسالة تحذير عام من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيهاجمهم ، فسأله النبي عنها فأقر بها وبررها بالخوف على أهله في مكة وأنه يعلم أن الله ناصر النبي صلى الله عليه وسلم برسالته أو بدونها ولكن لأنه الوحيد تقريبا الذي ليس له قرابات في مكة رأى أن الرسالة تحمي ذريته في مكة أثناء الفتح ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: ” إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ” ، لم يكن مبرر حاطب – على وجاهته الظاهرة – مقنعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه والدليل قول عمر ، ولكنه صدق من جانب – كصدق الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك فقدر لهم ذلك وإن كانوا مخطئين – ومن جانب آخر لم يدفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم الوصف والعقاب إلا بمشاركته في غزوة بدر ، مانع خاص ، أما في رأي القاضي صفي الدين ( يحيى الفخراني) فإن حاطبا قد أخطأ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم التمس له العذر لا سيما أن مبرره كان سببه فطري وهو “حب الوطن” حسب تعبيره ، إفشاء سر الجيش سببه حب الوطن ، وعندما تعجب الصغير مثلي أخبره القاضي بأن حب الأسرة في مكة هو من قبيل حب الوطن، وفي ذلك “حشر” واضح لحب الوطن في القصة ، ففعل حاطب رضي الله عنه كان به ضرر لوطنه الحقيقي الذي ينتسب له ، وقريش لا تمثل له وطنا سابقا حتى فهو ليس منها في شيء دينا ولا نسبا ، وأما الخوف على الذرية فلا يمكن وصفه أبدا بالمبرر الوطني في مثل هذا الموقف.

وفي الحلقة الثالثة ألقى (صاحب الشرطة) تهمة الجاسوسية على معلم اللغات (جوجا) ، وحجته أنه يتقن اللغات وأنه مسيحي الديانة ، ليغضب القاضي العادل جدا من الحيثية الثانية، ويقرر تعليم أحفاده درسا جديدا معتمدا على الموقف ، والقصص في السيرة في خدمة هذا المعنى كثيرة ولكن ربما لأن أنسب تلك القصص لهذا الموقف – قصة الدرع المسروقة – قد طرحت في الجزء الذي عرض في العام الماضي (عجائب القصص في القرآن الكريم) بحث القاضي عن قصة جديدة وصفها بأنها تمثّل “قصة محبة بين المسلمين والمسيحيين في الحبشة” ليسوق قصة النجاشي أصحمة بن أبجر رضي الله عنه – في ثلاث حلقات – مسرفا في ذكر تفاصيل شبابه قبل توليه الملك ، أما قصته مع الصحابة المستجيرين به ووفد قريش فمعروفة، ولكن الملفت في توظيف القصة أنه اضطر لإسقاط ذكر أمر هام جدا وهو إسلام النجاشي، لتبقى القصة مناسبة للتوظيف ، وفي القصة التي ذكرها المسلسل أن النجاشي بكى عندما سمع القرآن الكريم من الصحابة ، ومع ذلك لما جاء وقت ذكر الآية المناسبة للحدث في نهاية كل قصة كالمعتاد أسقط الآية التي ذكرت مشهد البكاء – رغم تمثيلها – لأنها تحتوي خبر الإسلام ، فذكر قوله تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)) المائدة ، ولم يذكر الآية التالية المكملة للمعنى والمشهد (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)) سورة المائدة، كما أن القصة المعروضة نفسها تناقضت مع المعنى المطروح لأن فيها كان رأي الحاشية جميعها تسليم المسلمين لقريش عدا النجاشي فقط، فالمسلمون عاشوا في سلام بسبب عدالة النجاشي الفريدة والمنفردة ابتداء ثم إسلامه انتهاء ، بل النجاشي نفسه كتم إسلامه حتى مات خوفا من قومه ولذلك صلى عليه النبي والصحابة صلاة الغائب في المدينة كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، فالقصة تتأرجح بين كونها غير دالة أو كونها ذات دلالة عكسية للمعنى “المحشور” فيها.
وفي عموم الحلقات يصف القاضي الخليفة بـ (خليفة البلاد) ، وهو مصطلح كوميدي لا معنى له ، فوصف الخليفة هو وصف شرعي معروف بأنه مرتبط بالإسلام (خليفة المسلمين) ولكن الحرص على تقديم المحتوى “الديني” في قالب “وطني” جعلت المسلسل يستخدم هذا الوصف الهجين عديم الدلالة.

أما عن الدلالات السلبية للقصة المؤلفة، ففيها صاحب الشرطة رجل حاد مندفع شديد الغباء ، لم ينجح طوال الحلقات في حل لغز واحد، تحليلاته دائما سطحية لكل الأحداث (الجاسوس وهجمات القوافل والقراصنة وغش الذهب وتسلل المتسول للقصر)، متسرع في إلقاء التهم جزافا (أتهم المعلم والطباخ ثم زوجته نفسها بالجاسوسية عندما تشاجر معها دون دليل)، أضاع الخيط الوحيد للوصول للجاسوس، يأمر بالغلظة في التعامل مع السجناء، ولا ينقذ الموقف في كل ذلك سوى القاضي الحكيم الذي يبرر باستمرار أفعال صاحب الشرطة بأنه “طيب القلب”، أينعم هو مسلسل للأطفال ينبغي أن يحتوي على جانب من البهجة ولكن مع التركيز في نفس المسلسل على الخطر الشديد الذي يواجه “البلاد” لا يمكن أن يكون تبرير استمرار هذا الضائع الغبي الغليظ هو أنه “طيب القلب”، وأظن القاضي يحيى الفخراني سيكون في مأزق إذا أخطأ المؤلف في حلقة وجعل القصة القرآنية حول الكفاءة مثلا، والتي هي من قيم الإسلام العالية التي لا يبرر إضاعتها “طيبة القلب”.

ومن الدلالات السلبية وإن لم تظهر في سياق الأحداث كسلبيات صاحب الشرطة هي أن يكون القاضي صهرا للخليفة ، فأحفاد الخليفة يتعلمون الحكم والفروسية من أبيهم وأبيه ويتعلمون الحكمة والدين من جدهم لأمهم، أظن أن الفصل كان أفضل وأولى بكثير ، كما وأنه في كل هذه الحلقات كانت توجيهات القاضي كلها لصاحب الشرطة الكوميدي ، ولم يحتج الخليفة في أي موقف أو قرار لتوجيه من القاضي الحكيم ، بل ولم يحتج القاضي نفسه إلى توجيه، ولم يخطيء في أي تقدير إلا بسبب صاحب الشرطة أيضا، حتى عندما أفرج القاضي عن سارق ضبط متلبسا بسرقة رغيف وسأل صاحب الشرطة عن سر البراءة رغم التلبس، كان أول فعل للقاضي نهر صاحب الشرطة لأنه “يناقش حكم القاضي” ، ثم بلهجة أخف أوضح أن سرقة جائع ضعيف العقل لرغيف لا يمكن أن تكون تهمة ، فيما لم يرد لوم القاضي للخليفة على وجود ذاك الجائع في دولته الكبيرة التي يعوّض فيها من خزانة الدولة في أكثر من حلقة كبار التجار الذين سرقت أو كسدت بضاعتهم بسبب أعمال الفوضى.

اقرأ أيضًا:

معتز عبد الرحمن: لا تجادل ولا تناقش يا “برينجي”

 معتز عبد الرحمن: ناسا العربية.. وكالة من غير بواب

معتز عبد الرحمن: ماذا خسرنا بتشويه الدراما لكفار قريش؟!

.

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا