إيهاب الملاح يكتب: ماذا فعل "المنسي" بالأغاني وبنا؟

من متع الحياة الجليلة أن تقرأ كتابا عذبا، يلتصق بذاكرتك، يتغلغل في روحك ويحفر بنعومة علاماته التي لا تُمحى، ويسجل رقم قيده في الذاكرة، غير قابل للمحو أو النسيان، وإذا زدنا أيضا أن يرتبط هذا الكتاب بمرحلة باكرة من العمر، براءة التعرف على العالم ولذة الخوض والاكتشاف وتلمس الطريق، فإنه يحتل مكانته ككتاب لاكتشاف “طريق” لا “محطة وصول”.

هذا بالضبط ما ينطبق على كتاب المبدع والروائي العذب أيضًا محمد المنسي قنديل «شخصيات حية من الأغاني»، المنسي قنديل من أكثر الكتاب عذوبة وتقديرا وتعاطفا مع التاريخ والحروف والبشر، كاتب يبحث عن الحقيقة بعيدا عن القوالب الجاهزة والمكرورة، يبحث دائما عن قالبه ولغته وصياغته التي لا تقلد أحدا ولا تسعى لأن تكون “عادية” أو “مألوفة”.. أبدًا

نرشح لك: قنديل.. العاشق للتاريخ والباحث عن الهوية

 

«شخصيات حية من الأغاني» أحد الكتب التي يمكن أن نطلق عليها “كتب النوستالجيا الحية”.. لا أظن أن أحدا من أبناء جيلي أو الأجيال الأقدم نسبيا، واتصل بسبب من الأسباب بتراث العرب الأدبي الزاخر، إلا واحتل هذا الكتاب مكانة فريدة في وجدانه وعقله. مثلا الصديق الروائي محمد ربيع صاحب رواية «عُطارد» يقول “إن كتاب المنسي قنديل (شخصيات حية من الأغاني) هو أول كتاب أقرأه للمؤلف. هو الذي جعلني أحب قنديل. وأقرا كتاب الأغاني بعد ذلك”، قال هذا بمناسبة صدور طبعة جديدة من الكتاب عن دار الكرمة للنشر والتوزيع.

هذا الكتاب الذي تُستقى مادته من الكتاب التراثي الأشهر «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وتدور وقائعه في مخادع الملوك وبلاط الأمراء وفي فضاء الصحراء والبوادي، وحيث تجري مغامرات حارة وأنفاس لاهثة تدور خلف الخيام وتحتها ووراءها، يتتبع همسات العشاق ولوثات الشعراء ومماحكات المتغزلين، أقول يعيد قراءة الكتاب ذي الاثنين وثلاثين جزءًا، ويبدع بلغة عصرية، رائقة وسلسة، صياغة جديدة للمتن العربي القديم.

ولمن لا يعرف من القراء الجدد، فإن كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، موسوعة أدبية ضخمة تقع في 32 جزءا، عكف على كتابتها الأديب الأريب، أبو الفرج بن الحسين الأصفهاني (توفي 286هـ)، بنى أبو الفرج كتابه على مائة صوت (قصيدة شعر تم تلحينها وغناؤها) كان هارون الرشيد أمر إبراهيم الموصلي مغنِّيَه أن يختارها له، وزاد عليها بعض أصوات (قصائد) أخرى، فكان يذكر الصوت وتوقيعه، ويذكر قائله ويترجم له، ويستطرد ما شاء له الله في ذلك. إذن فقد تم للأصفهاني في هذا الكتاب جمع تراجم لأهم 100 شاعر عربي، عارضا لأهم وأروع أبيات الشعر العربي، بذائقة فائقة الحساسية والإبداع، وخلال ذلك سجّل الأصفهاني التاريخ الاجتماعي “الحي الزاخر” للعرب، عاداتهم وتقاليدهم، عذاباتهم وحلهم وترحالهم، المرأة وحضورها، الحرائر والجواري، الغلمان والقيان والعبيد.. إلخ العناصر والعوامل التي تشكل في النهاية صورة نابضة بالحيوية للمجتمع العربي منذ الجاهلية وحتى القرن الثالث للهجرة.

لكن.. ماذا فعل المنسي قنديل بالضبط في هذا الكتاب؟ ما الذي قدمه؟ وما الجديد الذي جعل كل من قرأ الكتاب تهفو نفسه وروحه إلى الترحال والبحث عن متن “الأغاني” الكبير وقراءته.. إلى خوض لذة الغوص في «أغاني الأصفهاني»؟

يُقدم لنا محمد المنسي قنديل في هذا الكتاب المُمتع شخصيات مختارة من موسوعة أبي فرج الأصفهاني الشهيرة «الأغاني». في هذه الصفحات “يتراجع رجال السُّلطة قليلًا ليتقدم الشعراء، يخفض الفرسان سيوفهم حتى يعلو همس العشاق، يتوقف صليل السيوف حتى يتواصل إيقاع اللحن والغناء، عشاق معذبون يعيشون ما بين حرارة اللقيا ومرارة البين، وعندما يسمعون حداء القوافل يلفظون أنفاسهم الأخيرة”.. هكذا يتحدث المنسي قنديل عن صنيعه في هذا الكتاب.

نرشح لك: أبرز 4 أعمال فنية قدمها محمد المنسي قنديل

وبأسلوبه العذب السيال يعرض علينا المنسي صفوة من الناس، رفعهم جهدهم العقلي عن طبقتهم العادية، بداخلهم بذرة من الطموح القلِق، يتأرجحون بين الأحلام التي يسطرونها في كلمات القصائد، وبين تقاليد الصحراء التي لا ترحم، أناس عبّروا بكل صراحة عن مشاعر الهوى المستعر، والشهوة الصريحة، والرغبة في الحياة، فيُعيد لنا جمال أُنس الليالي الخوالي. وتبقى شخصيات «الأغاني» – واقعية كانت أو خيالية – خليطًا من الحب والجنون والرغبة، تحلق عاليًا قبل أن يهبط بها مدار الوهم، ولعل هذا أحد أسرار إمتاع هذا الكتاب البديع.

سار المنسي قنديل في هذا الكتاب مثل ما سار في كتبه الأخرى (هل نقول التاريخية أم التراثية أم الاثنين معا؟) التي جمع فيها مقالاته المنشورة على صفحات مجلة العربي الكويتية، وأما تجربته في هذه المجلة الثقافية العريقة التي عمل بها محررا ما يزيد على عقدين من الزمان، فتستحق “رواية” بأكملها لثرائها الباذخ، تركت آثارها البينة على إبداعه وفنه ومجمل كتابته.
في ظني لولا ما أتاحته له (العربي) من إمكانية السفر والتجوال في بلدان مختلفة من العالم، شرقه وغربه، وتحرير عشرات الاستطلاعات التي برع في كتابتها (تستحق دراسة أسلوبية خاصة) لما كان للمنسي قنديل أن يتجه إلى هذا اللون من الكتابة عن التاريخ والتراث، كتابة تعمد إلى التصوير الأدبي المعاصر، بلغة فريدة وأسلوب مستقل متفرد، لمادة تاريخية وتراثية، هي بطبيعتها جافة وتتأبى على القارئ العادي أو المبتدئ الذي ستجابهه غابات متشابكة الأفرع والغصون، ولولا كتابات محمد المنسي قنديل عن التاريخ والتراث (جمعها فيما بعد في عدة كتب طبعت منها طبعات عدة) لفات أجيال عديدة أن تطلع على كنوز هذا التراث وأن تُقبل على قراءته مستعينة بما كتبه المنسي قنديل ومتسلحة بمعرفة أولى تمهد الطريق لمزيد من التعرف والكشف والمقاربة.

ويمكن الإشارة إلى أن كتابه «لحظة تاريخ.. 30 حكاية من الزمن العربي» الصادر طبعته الأولى عن دار الشروق، هو في الحقيقة طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من كتابه «تفاصيل الشجن في وقائع الزمن» بعنوان فرعي (قصص من الزمن العربي) الذي صدرت الطبعة الأولى منه عن دار الهلال المصرية في نوفمبر 2001، بالمنطق ذاته تعد الطبعة الجديدة من «شخصيات حية من الأغاني» الصادرة عن دار الكرمة مع مطالع 2015، طبعة مزيدة منقحة أضاف لها المؤلف وعدل فيها بما يمكن القول معه إن هذه الطبعة مختلفة عن الطبعة الأولى التي صدرت في التسعينيات عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وما أمتع لحظات التاريخ نعيشها مع المنسي قنديل بقلمه، وأروع شخصيات الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني عندما تتجسد حاضرة قائمة مبصرة تحدثنا ونشاهدها وننسى الدنيا وما فيها في خلسات من زمننا التعيس هذا..