من الحرب الأهلية لانفجار بيروت.. شاشات الأخبار المؤسفة

فرح بعلبكي

غالبا، عندما يقع حادث أليم في لبنان، كانفجار مثلا، نجد المحطات التلفزيونية اللبنانية في اليومين الأولين للتغطية المباشرة متضامنة مع بعضها البعض تحت شعار “الوحدة الوطنية”، “لبنان وطن للجميع”، “اللبنانيون تعبوا من الدمار والهلاك”، وسيلا من الجمل التي تعود عليها اللبنانيون وحفظوها. إلا أنه وبعد يومين أو أكثر بقليل، تعود كل محطة إلى ثوابتها الطائفية والمناطقية والحزبية و”التمويلية”.

بعد أيام قليلة من أي فاجعة وطنية، نجد المحطات الإعلامية غيّرت من مقدمة النشرة الإخبارية المسائية (النشرة الأساسية عند الثامنة مساءً)، تعود لاستخدام المصطلحات الملغومة، العبارات الرنّانة، صياغة روايتها الخاصة حول الحدث، والغمز واللمز على الأطراف السياسية، وتغص شاشة كل محطة بنفس المحللين السياسيين والشخصيات السياسية التي تؤكد روايتها حول الحدث ووجهة نظرها، وبالطبع ما يرضي الممول سواء كان داخليا أم خارجيا.

بعد فاجعة مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 – والتي لم يتنهِ فيها التحقيق حتى الآن –  دفعت MTV وLBCI إلى ضرورة إسقاط الحكومة وتحميلها كامل المسؤولية عمّا جرى خاصة مع تفاقم الأزمة الإقتصادية على اللبنانيين منذ سبتمبر الماضي، واندلاع الاحتجاجات الشعبية في 17 أكتوبر الماضي. أما المنار وNBN وOTV دافعوا عن الحكومة وعهد ميشال عون، من خلال التركيز على أن المواد الموضوعة في المرفأ متواجدة منذ 2014. وذهبت قناة LBCI إلى حد توقفها عن النقل المباشر للمؤتمرات الصحفية للسياسيين وقادة الأحزاب وأعلنت عن ذلك في مقدمة نشرة الأخبار وقالت بما معناه إن الشعب شبع من الكلام والآن وقت الأفعال.

في الحقيقة، ليس الإعلام وحده الذي يساهم في انقسام اللبنانيين حول الأحداث، بل اللبنانيون أنفسهم هم من يزيدون من هذا الانقسام. فكل لبناني في اليومين الأولين للحادث يتابع كافة الشاشات اللبنانية وبعد ذلك يختار محطته التي تعبر عن طائفته ومنطقته والحزب الذي يؤيده والذي كوّن من خلاله رأيه السياسي.

قبل العام 1975 كان التلفزيون جامعا للبنانيين، فلم يكن هناك إلا قناة واحدة هي تلفزيون لبنان الذي تأسس عام 1959 وفي الستينات كان هناك قناتين “قنال 7” وقنال 9″، الأولى في منطقة تلة الخياط في بيروت والثانية في الحازمية في بيروت أيضا، وبعد الحرب ستصبح قناة 7  “الغربية” دلالة على مناطق المسلمين و9 “الشرقية” دلالة على مناطق المسيحيين.

عند تأسيس تلفزيون لبنان كان الشاشة التي نظر إليها اللبنانيون للعالم، وشاهدوا من خلالها أبرز الأحداث العربية والعالمية كاغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، ونكسة عام 1967 وانتخاب جورجينا رزق ملكة جمال لبنان كملكة جمال العالم.

وتنامى دور تلفزيون لبنان وعرف عصره الذهبي في ستينات القرن الماضي، عندما شهد لبنان ازدهارا اقتصاديا وسياحيا وثقافيا وفنيا، وأطلق عليه “سويسرا الشرق”. عرف اللبنانيون مجموعة كبيرة من الوجوه الإعلامية مثل ليلى رستم، سونيا بيروتي، غابي لطيف ورياض شرارة.    ومسلسلات مهمة مثل “عشرة عبيد زغار”، و”ألو حياتي”، إلى جانب البرامج الإعلامية الثقافية والفنية والتي استقبل خلالها أهم الوجوه الفنية اللبنانية والمصرية مثل صباح وفيروز ووديع الصافي وعبد الحليم وفريد الأطرش، كذلك برنامج المواهب الأول في العالم العربي، برنامج استوديو الفن الذي خرج العديد من الفنانين اللبنانيين المعروفين على المستوى العربي مثل راغب علامة وماجدة الرومي.

عندما بدأت أحداث 13 أبريل 1975، التاريخ الرسمي للحرب الأهلية اللبنانية، اكتفى تلفزيون لبنان بإذاعة الأخبار “كأحداث أليمة حلت على لبنان” أو “أخبار أمنية مؤسفة”، كما ذكر الإعلامي زافين قيومجيان في كتابه “أسعد الله أوقاتكم- مائة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان” (الصادر عام 2015)، وعندما سيطرت الأحزاب وانقسم لبنان، وانقسمت بيروت بين شرقية وغربية، اختلفت اللغة الإعلامية واختلفت المصطلحات. وباتت “القنال 7″ للمسلمين و”القنال 9” للمسيحيين.

في الثمانينيات تراجع دور تلفزيون لبنان بسبب الفوضى التي حلت على لبنان بعد الحرب الأهلية وتضعضع الدولة اللبنانية، وغياب الدعم للتلفزيون ودخول الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل إلى بيروت، وباتت أجهزته قديمة ولم يتم تجديدها. تأسست المؤسسة اللبنانية للإرسال LBCI، في العام 1985، والتي جاءت لتنقل صوت مسيحيي لبنان وأبرز وجوهها الإعلامية كانوا مي شدياق، دوللي غانم، والأخوين جورج ومارسيل غانم وغيرهم.

بانتهاء الحرب اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف، في العام 1989، والذي اعتبر التاريخ الرسمي لانتهاء الحرب وبداية مرحلة إعادة بناء لبنان من جديد. بدأت مرحلة جديدة للإعلام اللبناني، تراجع خلالها دور تلفزيون لبنان أكثر وأكثر، التلفزيون الرسمي، وبرز دور التلفزيونات الخاصة. في العام 1993، أسس رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، تلفزيون المستقبل، والذي جُهز بأحدث التجهيزات والتقنيات. محطة تلفزيونية عصرية، قدمت الصورة الجديدة للبنان، لبنان سويسرا الشرق، لبنان إعادة الإعمار والسهر والفن والموضة والرؤية المستقبلية.

وفي الواقع، قدم التلفزيون على مدار أكثر من عشر سنوات أحلى البرامج التلفزيونية مثل “خليك بالبيت” للإعلامي زاهي وهبي، برنامج الألعاب “إلك” للإعلامي ميشال قزي، برنامج “سوبر ستار” الذي نجح نجاحا باهرا في موسمه الأول، إلى جانب وجوه بارزة في نشرات الأخبار مثل الراحلة نجوى قاسم، ريما مكتبي، زينة فياض ومنير الحافي.

على خطٍ مواز، تأسس في أوائل التسعينات (التاريخ مختلف) تلفزيون المنار الذي عبر عن فئة من الشعب اللبناني هي الطائفة الشيعية ثم NBN لحركة أمل (وعلى رأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري) وMTV لغابريال المر، والجديد لرجل الأعمال تحسين الخياط. تطور تلفزيون المنار وبرز دوره خلال حرب يوليو 2006 بل كان هو المصدر الأساسي لأخبار العدوان الإسرائيلي على لبنان، أما NBN بقيت محطة تعبر عن فكر سياسي وطائفي واحد بمعداتها المتواضعة وتمويلها المتواضع. أما الجديد وMTV  عاشتا مرحلة من الغياب والعودة، ثم برزتا مجددا كمحطات رئيسية. ولعل MTV قررت أن تقدم نفسها كشاشة للبنان آخر، عصري يعكس حياة فئة “الإيليت” من اللبنانيين من خلال برامجها. وفي العام 2007، وبعد عودة الرئيس ميشال عون من منفاه الفرنسي إلى لبنان، أسس محطة OTV التي تعبر عن رأيه السياسي والحزبي ولم تشهد المحطة أي دور لامع خاصة وأن معداتها متواضعة.

الجدير بالذكر، أن تراخيص هذه المحطات قسمت طائفيا بالقانون كما يقسم كل شيء في لبنان طائفيا.

تقوم المحطات اللبنانية بالدور نفسه عند كل حادث. تحضر مقدمة نشرة إخبارية مطولة قد تصل مدتها إلى 15 دقيقة، وترتب كل محطة الأخبار حسب أولوياتها، ثم تستقبل المحللين السياسيين والشخصيات السياسية الموالية لفكرها ورأيها ورأي ممولها. في بعض الأحيان، تتم استضافة شخصيات متضادة ليبينوا للمشاهد أن المحطة تعبر عن الرأي والرأي الآخر، إلا أن هذه النقاشات عادة ما تنتهي بخناقات حادة على الهواء مباشرة بين الضيوف أو بين الضيوف والجمهور في الاستديو تصل إلى حد التضارب بالأيدي والسباب، وكثيرا ما تعمد المحطة لاستضافة الأضداد من أجل “الرايتينج”، وينتهي البرنامج والمشاهد اللبناني لم يفهم أي كلمة ولم يعرف حلا للمشاكل التي يعيشها.

ما يعبر عنه الإعلام اللبناني هو إنعكاس للشارع المنقسم طائفيا وسياسيا وحزبيا ومناطقيا واجتماعيا. والمواطن اللبناني بات يعرف تماما، كيف ستقدم كل محطة الخبر وصياغته وأبعاده ودلالاته، فالمواطن والأحزاب والإعلام والطائفية باتوا منظمومة واحدة.

في جميع الأحوال هي “أخبار مؤسفة”.