سيرة القراءة (9).. الأُلعبان

حاتم حافظ

في طفولتي اعتاد جيراننا كل خميس السهر في بيتنا لمشاهدة فيلم أجنبي. لا يمكن تخيل كيف كانت ثلاث أو أربع عائلات تتلاصق في الصالة – في الصيف – أو في غرفتي – في الشتاء – لمشاهدة الفيلم الأجنبي الذي يعرضه التليفزيون مساء الخميس. في تلك السهرات شاهدت – طفلا – أفلام مثل “الهروب الكبير” و”كازابلانكا” و”بالقرب من النافذة” و”عالم مجنون مجنون”. ولَعتُ بالأفلام لدرجة أني كتبت أول قصة لفيلم وأنا في الثانية عشر تقريبا. قبلها كنت أرتجل الأفلام لأمثلها مع أبناء خالي – إيهاب وجِل – وأبناء خالتي – عمر وزوزو – ومروة أختي. أوزّع الأدوار وألقّن كل منهم الحوار الذي يجب أن يقوله وأغضب أحيانا حين يخرج أحدهم عن النص غير المكتوب!

نرشح لك: سيرة القراءة (8).. الحياء المخدوش

 

في الثانية عشر كنت وأصدقائي في الشارع حين خرَجت أخت صديقنا محمود إلى الشرفة – وكانت عائدة لتوها من أمريكا – لتصورنا بكاميرا فيديو صغيرة الحجم لم أكن رأيت مثلها من قبل. وجود الكاميرا ألهمني فكرة الفيلم. بدأت في اختيار أماكن التصوير بين شوارع الحي والتفكير في الأصدقاء الذين سوف أمنحهم فرصتهم للظهور في الفيلم. وذات صباح بدأت كتابة قصة أسميتها (الأُلعبان). كانت قصة مستوحاة من أفلام فريد شوقي الذي كنت أحب أفلامه. الألعبان كان على النقيض من بطل جعلوني مجرما. كان شريرا كاملا وفي نهاية القصة يلقى جزاءه بالموت على يد أحد أتباعه. قبل أن أنتهي من كتابة الفيلم كانت شقيقة صديقي قد عادت لأمريكا ومعها الكاميرا فأُجهض المشروع!

قبلها بسنتين تقريبا مرّت مُدرّسة على فصول المدرسة لتخبرنا إن كان فينا من يرغب في التمثيل الذهاب إلى فصلٍ ما بعد الحصة. لم أكن مهتما بأن أكون ممثلا لكني ذهبت. جلست في الصف الأخير تقريبا فيما جلس المخرج على المكتب يتطلع إلى وجوهنا في صمت وفجأة صوّب نظره ناحيتي وقال “إنت يا متنعطز”. كنت لا أجلس إلا وساقي فوق الأخرى لكني لم أكن أعرف معنى كلمة متعنطز فلم أرد، ويبدو أنه حسبني أتجاهله فقام وجاء إلى حيث أجلس وأشار نحوي بأصابعه النحيلة الطويلة ثم سألني “إنت مثّلت قبل كده؟” فقلت وأنا أقف “لا”، فسألني “ليه؟” فقلت “هو أنا لقيت مكان أمثل فيه وما مثلتش” فانفرط الصمت وضج التلاميذ بالضحك. ابتسم واختارني للفرقة التي كلّفته المدرسة بتشكيلها!

في البروفة الأولى بدأنا في قراءة المسرحية التي كتبها بنفسه. كنت ألعب دور الابن وحين ألقيت بجملة موجهة لأبي أوقف المخرج البروفة وسألني عن سبب إلقائي الجملة على هذا النحو فشرحت له فاندهش. كنت قد نطقت الجملة بالأداء الذي كان يرغبه ولم يكن يتخيل أن صبي في سني يمكن أن يفهم الموقف الدرامي ولا الأداء المطلوب دون توجيه. فجأة وجدتني ألعب دور البطولة، ولأني كنت قادرا على إضحاك زملائي باستمرار قرر استبدال المسرحية بأخرى كوميدية. بعد فترة قصيرة صرت نجم المدرسة لدرجة أن زملائي كانوا يلاحقوني في الحوش للتوسط لدى المخرج للانضمام للفرقة. بعد أن أنهى المخرج مهمته رحل فصرت مخرج المسرحيات في المدرسة! كنت أكتب المسرحيات وأوزع الأدوار وتخليت عن التمثيل لأتفرغ للكتابة والإخراج. أحد أصدقائي ألح علي لأسند له دورا في المسرحية الجديدة فمنحته دور جثة. كان عليه النوم على الفراش طوال المسرحية فيما يتنازع أبناؤه على الميراث وفي نهاية المسرحية يقوم فجأة ليعلن أنه كان يختبرهم! يوم العرض وفي اللحظة المنتظرة لم يقم من فراشه. انتظرنا أن يقوم فلم يتحرك. وقف الممثلون لا يعرفون كيف يتصرفون. وقفت في الكالوس أنادي عليه دون فائدة. اضطررت لاقتحام المسرح فاكتشفت أنه نام بالفعل من طول بقائه فضربته فقام مفزوعا وبدلا من أن يُلقي حواره خاف من غضبي فقفز من فوق الخشبة بين المتفرجين فاضطررت للقفز خلفه لمطاردته. المتفرجون ظنوا أن ما يرونه جزء من المسرحية فضحكوا وظلوا يضحكون وأنا أطارده في كل مكان.

بعد التحاقي بالمدرسة الثانوية كففت عن التمثيل وبدأت في كتابة الشعر والأغاني التي كنت أقوم بتلحينها بنفسي لدرجة أني تجرأت ذات مرة وكتبت “نوتة” اللحن بعد أن تعلمت كتابتها من ابن خالي إيهاب. في ذلك الوقت اشتريت مسرحيات “إيزيس” و”أهل الكهف” لتوفيق الحكيم. أوهمني الحكيم بفكرته عن المسرحيات الذهنية التي تُقرأ ولا تمثل (رغم أن مسرحياته الذهنية كلها قدمت على خشبات المسارح). كتبت بعدها فصلا من مسرحية عن اليوم الأخير في حياة لويس الرابع عشر. أتذكر مشهد لويس وهو واقف في نافذة قصره فيما يسمع أصوات الجموع الثائرة تقترب.

في الكلية كنت أكتب القصص القصيرة التي كنا نناقشها في جماعة “المنتدى الأدبي” وفي إحدى النقاشات أخبرني صديقي وأستاذي الشاعر خالد حمدان أن كتابتي السردية بها “حس درامي”. بعد انتهاء جلسة النقاش استفسرت منه عما قاله فشرح لي أن كل قصة منها تصلح لأن تكون عملا دراميا. وكعادته أخرج ورقة من دفتره وشرح لي طريقة بناء المسرحية. نقطة البداية والوسط والنهاية. التصاعد الدرامي والعقدة والحبكة والفرق بين التراجيديا والكوميديا. سألت بعدها عن مسرح الكلية وذهبت وأخبرتهم أني كاتب مسرحي! طلبوا مني قراءة مسرحية من مسرحياتي، ولأني لم أكن قد كتبت للمسرح عملا متكاملا بعد قضيت الليلة حتى الصباح لكتابة مسرحية عن شخصين يتم دفعهما إلى خشبة المسرح دون إرادة منهما. يبدآن في التعرف على بعضهما البعض وفي منتصف المسرحية يكتشفان أنهما شخصيتان في مسرحية كتبها مؤلف وأن كل ما حدث حتى هذه اللحظة كان مكتوبا في مسرحيته. يقرران التمرد على المؤلف والخروج عن النص فيبدآن في الكلام الحر لكنهما يكتشفان أن حتى هذا الكلام “الحر” جزء من نص المسرحية، فيقرران عدم استكمال المسرحية. يجلس كل منهما على خشبة المسرح دون كلام يهزان ساقيهما. تمردا بالصمت التام. لكنهما بعدها يتشككان في أن الصمت نفسه من المحتمل أن يكون جزءا من المسرحية فيصابان بالإحباط. يكتشفان في النهاية أن كل ما يجري على خشبة المسرح هو نص المسرحية وأنهما ليسا إلا شخصيتين مجبروتين على تنفيذ مسرحية كتبها مؤلف لا يعرفانه! حين ذهبت في اليوم التالي لمخرج المسرحية (وكان طالبا في الصف الرابع) وقرأها اتهمني بأني لص! قال إنها مسرحية لصمويل بيكيت. لم أكن أعرف من هو بيكيت هذا وكل ما قرأته من مسرحيات كان فقط أهل الكهف وإيزيس. في السنوات التالية لم أذهب للمسرح مجددا.

لم أقرأ بعدها غير لتوفيق الحكيم. ولم أشاهد إلا المسرحيات التي كنت أحضرها مع والدي كل فترة. لكني قرأت كتاب علم المسرحية لألارديس نيكول وكيف تكتب المسرحية للاجوس أجري الصادرين ضمن مطبوعات سعاد الصباح، وكتاب عيوب التأليف المسرحي لولتر كير من مطبوعات المكتبة الدرامية التي كانت تصدرها مكتبة مصر. وهي الكتب التي أهلتني للالتحاق بقسم الدراما.

نرشح لك: سيرة القراءة (7).. إيزيس


حين التحقت بالمعهد كتبت مسرحية أخرى وذهبت للزميل كمال عطية الذي عرفت أنه مخرج “شاطر”. كنت في السنة الأولى وكان هو في سنة التخرج. عرضت عليه مسرحيتي وحين قرأها ابتسم وأخبرني بأني أقلد صمويل بيكيت! أحسست أن بيكيت يطاردني كلعنة. كرهته قبل أن أعرفه، لكني لم أستسلم للكراهية، فذهبت للبحث عن مسرحياته، رغم أنه كان من المقرر دراستها في السنة الرابعة. بعد قراءته اكتشفت أحد أهم كتابي المؤسسين. وضعته جنبا إلى جنب مع أنطون تشيخوف الذي فتنني منذ وقت مبكر كقاص. على خشبة مسرح المعهد عرضت أولى مسرحياتي عن نص “الليلة الأخيرة” لبيكيت.

أول كتبي كان بعنوان “أنساق اللغة المسرحية في مسرح تشيخوف” والذي كان بحث تخرجي من المعهد. كان الشائع عن تشيخوف أنه كاتب واقعي ما يعني أنه غير معني بأدوات المسرح المرئية والمسموعة والتي التفت إليها الكتاب المضادين للواقعية. حين عرضت الفكرة على أستاذي الراحل دكتور محسن مصيلحي أخبرني أن فكرتي لا تصلح إلا لكتابة مقال بالكاد، لكني أصررت على أن تكون موضوع بحثي. وحين أنجزت البحث وقرأه أخبرني بتواضع العلماء بأنه كان مخطئا وبأن البحث كان يمكن أن أحصل به على الماجستير! حين سمع الناقد الراحل حازم شحاته عن البحث رشّحه للنشر في المجلس الأعلى للثقافة في سلسلة الكتاب الأول. البحث أيضا شاركت به في مسابقة نظمتها لجنة الدراسات الأدبية في المجلس لكني لم أحصل على الجائزة. يوم إعلان النتيجة التقيت بالأستاذ بهاء طاهر وكان عضوا في لجنة التحكيم وحين عرّفته بنفسي وجدته يقول لي “إنت فين؟.. دا أنا بدوّر عليك!” أخبرني يومها بتواضع كبير – وهو أحد مترجمي مسرحيات تشيخوف – بأنه – بقراءة بحثي – تعرّف على تشيخوف كما لم يتعرف عليه من قبل! وحين سألته ولماذا لم أحصل على الجائزة إذن ضحك وقال “يا راجل إنت مقدم بحث للجنة الدراسات الأدبية وعامل فصل كامل بتقول فيه إن المسرح مالوش علاقة بالأدب وإنه خطأ اعتباره من الفنون الأدبية! يدولك الجايزة إزاي؟!”. وكان رأي الأستاذ بهاء أول جائزة حقيقية أحصل عليها.

في السنوات التالية تفرغت لبحث الماجستير عن صمويل بيكيت! كان موضوع البحث كيف يفكك بيكيت الخطابات المهيمنة في مسرحه. وبسبب بيكيت قرأت الكتاب المقدس بنظرة نقدية، وبسببه التحقت بدورة لتعليم اللغة الانجليزية حتى أتمكن من قراءة نصوصه بلغته، وبسببه ترجمت عشر مسرحيات قصيرة بعضها سبقت ترجمته. وفي السنوات اللاحقة تأكدت من أن كل كتاب قرأته كان أكبر من كتاب. كان علامة تقودني لشيء ما.. وأن رحلة حياتي ليست إلا سيرة للقراءة.