قصة 4 سنوات من الفرص الضائعة.. كيف أفسدت إثيوبيا مفاوضات سد النهضة؟

أحمد عدلي

لم تكن فكرة إنشاء سد النهضة وليدة اللحظة أو الموقف المفاجئ من القيادة الإثيوبية لدول حوض النيل، لكن فكرة السد الأولى بدأت عام 1964 من خلال مكتب الاستصلاح الأمريكي الذي أجرى دراسة عملية لإنشاء سد في هذه المنطقة، لكن الدراسة الأمريكية الأولى التي أكدت إمكانية استغلال مياه الأنهار في توليد طاقة كهربائية تزيد عن 45 ألف ميجا وات منها حوالي 30 ألف ميجا وات من منظومة نهر النيل تعثرت بسبب انشغال إثيوبيا بالأزمات الداخلية بالإضافة إلى حروبها مع إريتريا والصومال والاضطرابات الداخلية.[1]

نرشح لك: إثيوبيا.. تاريخ من الاعتداءات على الحقوق المائية لدول الجوار

ومع تغير الوضع في بداية القرن الحادي والعشرين وتوقف الحروب بين إثيوبيا وجيرانها، وانتهاء الصراعات الداخلية بشكل كبير، شرعت أديس أبابا في تخطيط وتنفيذ مشاريع تنموية ضخمة تساعدها في ذلك علاقاتها الجديدة والجيدة مع الدول الغربية والنمو المتزايد للاقتصاد الإثيوبي، حيث بدأت خطة لتنمية اقتصادها وكان من بينها دراسة أعدت بالشراكة بين الحكومة والبنك الدولي بعنوان “إثيوبيا: إدارة الموارد المائية من أجل الزيادة القصوى للنمو القابل للاستمرارية” حيث ظهر واضحا الاتجاه القوي للدولة في توليد الطاقة الكهربائية، فقد كانت كل الطاقة الكهربائية المولدة من السدود في إثيوبيا ببداية الألفية لا تتعدى 500 ميجا وات.[2]

وتتركز قوة الطاقة المتاحة لإثيوبيا في منظومة نهر النيل ونهر أومو بسبب الانحدار الحاد في مجرى أنهار هاتين المنظومتين، وبدأت التركيز على نهر اومو بالبداية نظرا لكون المشاكل السياسية والقانونية أقل وبالتالي إمكانية الحصول على قروض تمويلية سيكون أقل تعقيدا من أي مشاريع يتم تنفيذها على حوض مياه نهر النيل.[3]

مفاوضات سد النهضة
 

ويعتبر نهر النيل من أطول أنهار العالم؛[4] إذ يبلغ طوله نحو 6670 كم، وتستفيد منه، ويجري في داخل حدود، 11 دولة، ويشغل حوض النيل في بعض الدول، كجمهورية الكونغو الديمقراطية، 0.7%، وبوروندي 0.4% ، أي ما يساوي نصف مساحتها الإجمالية، ورواندا 0.7%، أي ما يساوي 75% من مساحتها الإجمالية، وتنزانيا 2.7%، وكينيا 1.5%، والكونغو 0.7%، وأوغندا 7.4% ، وإثيوبيا 11.7%، وإريتريا 0.8%، والسودان 63.6%، ومصر 10 %.

الخطوات الفعلية لتنفيذ سد النهضة:

في عهد زيناوي أعلنت الحكومة الإثيوبية خلال الأسبوع الأخير من مارس 2011 عن اعتزامها بناء سد بني شنقول والذي تغير اسمه لسد الألفية العظيم ثم سد النهضة العظيم وتغيرت سعته لتصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه عند اكتمال بنائه (وهي كمية تعادل اقل من نصف مياه بحيرة السد العالي 162 مليار متر مكعب وضعف كمية مياه بحيرة “تانا) على أن يشمل السد 16 مولد يقوم كل منها بتوليد 375 ميجا وات من الكهرباء حيث تساوى الطاقة المتوقع إنتاجها ثلاث مرات الطاقة المولدة حاليا في إثيوبيا وثلاث مرات الطاقة المولدة من السد العالي.

ولم يمر الإعلان بشكل سلس كما توقعت أديس أبابا في البداية خاصة وأن الاضطرابات التي كانت تشهدها مصر بعد ثورة 25 يناير لم تكن عائق أمام القيادة السياسية المؤقتة برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري لبحث الأمر من الناحية العملية والتحرك تجاه المشروع الذي يهدد الأمن المائي المصري[5].

وأبدت مصر اعتراضا على عدم وجود إخطار مسبق لدولتي المصب وهما مصر والسودان بداعي أن المشروعات التي تم تنفيذها في مصر ممثلة في ترعتي توشكى والسلام أو في السودان لم يتم إبلاغ إثيوبيا بها ومن ثم تتعامل أديس أبابا انطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل.

وكلف رئيس الوزراء الإثيوبي شركة ساليني الإيطالية بالأمر المباشر لتنفيذ السد الذي وضع حجر الأساس الخاص به في الثاني من أبريل 2011 أي بعد أيام قليلة من الإعلان عن إقامته وهو ما عكس محاولة إثيوبية لفرض سياسة الأمر الواقع بعملية البناء على الرغم من عدم اكتمال الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع وقت وضع حجر الأساس وهو ما تضمنه التقرير النهائي الصادر من لجنة الخبراء الدوليين في مايو 2013.

واللجنة تم إنشاؤها من قبل حكومات مصر وإثيوبيا والسودان لمراجعة وثائق التصميمات الخاصة بسد النهضة، وتقديم معلومات يمكن الوثوق فيها لمعرفة قدر المنافع والمكاسب، التي يمكن أن يقدمها السد وكيفية الاستفادة منها من قبل الدول الثلاث، لبناء الثقة بينهم وفق ما تتعهد به الحكومة الإثيوبية دائما وفي ظل المخاوف المصرية والسودانية، التي تم رفعها من قبل الجهات الرسمية والشعبية بهما، حيث تم الاتفاق مع مكتب قانون دولي في 11 أبريل 2012 لتحرير العقود مع الخبراء الدوليين لضمان الشفافية، وبدأت اللجنة عملها في 15 من الشهر التالي[6].

مفاوضات سد النهضة

 وجاء تشكيل اللجنة من خلال مقترح اثيوبي نتيجة معارضة مصر والسودان تأسيس لجنة تضم 10 أعضاء بواقع اثنين من كل من الدول الثلاث واربعة خبراء من خارج دول حوض النيل لمراجعة أي أضرار قد تنتج من السد واقتراح الحلول اللازمة للتقليل منها ووافقت مصر والسودان على المقترح وبالفعل بدأت اللجنة عملها في نوفمبر 2011 بعد سبعة أشهر من بدء عمليات الحفر في السد.

وكان تشكيل اللجنة بمثابة محاولة من زيناوي لإرضاء وفد الدبلوماسية الشعبية الذي زار أديس أبابا من مصر بعد أيام قليلة من الإعلان الإثيوبي عن تدشين السد في الوقت الذي جاء عدم الزامية التقرير ليجعل من المحاولة مجرد إطار شكلي لا يحمل أي التزام قانوني على بلاده.

وتضمنت المهام الرئيسية للجنة زيارة موقع سد النهضة لاستطلاع أهم مكونات المشروع وما تم على الأرض من إنشاءات ومراجعة جميع الوثائق التي قدمتها إثيوبيا حول تصاميم وإنشاءات السد، وعقدت اللجنة 7 اجتماعات قدمت خلالها إثيوبيا معلومات تفصيلية عن سد النهضة وتكوينه من دراسات وتصميمات لخبراء اللجنة.[7]

المماطلة الاثيوبية في اللجان الفنية:

وعلى مدار اجتماعات اللجنة قدمت إثيوبيا 153 مستندا منها 103 مستند عبارة عن رسومات هندسية، و7 خرائط، و43 تقريرًا، وراجعت اللجنة 12 تقريرًا، منها تقريران في مجال البيئة والتأثير الاقتصادي، و3 في مجال المياه والهيدروليكا وسبعة تقارير في مجالات هندسة السدود، كما اعتمدت اللجنة 16 وثيقة جيولوجية وقدمتها إلى الفريق الجيولوجي خلال بعثاتهم لمقر السد لتكون مجرد خلفية معلوماتية.

وحرصت إثيوبيا على الاحتفال في ابريل 2012 بالذكرى الأولى لتدشين السد للاحتفال بما تم إنجازه على أرض الواقع، حيث وجه الإعلام بالتركيز على المسابقة ومن خلال برنامج تلفزيوني أعده مركز والتا للمعلومات تم استعراض أعمال البناء والتشييد التي تمت فعليا على أرض المشروع، تخللها إجراء لقاءات عديدة مع مدير المشروع ورئيس الهيئة الإثيوبية للطاقة الكهربية، وعدد من المهندسين والفنيين والعمال بالمشروع على مدى 25 دقيقة أظهرت مدى التقدم في العمل بالمشروع، واعتباره مشروعا وطنيا يسهم في تنمية إثيوبيا وتطورها عبر استخدام المياه التي كانت مهملة ولم تهتم بها الحكومات المتعاقبة، حتى جاء هذا المشروع في أعقاب قرار جريء من حكومة إثيوبيا من أجل توليد الطاقة الكهربائية.

وركز البرنامج على تصريحات العمال والفنيين الذين أبدوا فخرا بمشاركتهم في هذا العمل التاريخي الذي يمثل الأمل للشعب الإثيوبي، كما عبر سمانيو بكلا المدير التنفيذي للمشروع عن حجم ما تحقق من عمل.[8]

نجح زيناوي في فرض سياسته ورؤيته على الإدارة المصرية من خلال سياسة النفس الطويل، والتي لم تبدأ بعد 2011 ولكن إرهاصاتها بدأت من بداية الألفية في ظل حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك والمرتبطة باتفاقية عنتيبي والتي رفضتها مصر والسودان، ولم توقعا عليها، وهي الاتفاقية التي بدأت بتوقيع 6 دول من دول المنبع، والتي تصطدم بحقوق تاريخية ترفض مصر التفريط فيها خاصة حق الإخطار الذي يعطي القاهرة الحق في رفض إقامة أي مشروع على نهر النيل يضر بحصتها المائية، بالإضافة إلى طريقة التصويت والتي اشترطت مصر أن تكُن القاهرة والخرطوم جزء من الأغلبية بينما رفضت إثيوبيا هذا الأمر، حيث اختار التوقيت المناسب لتنفيذ ما كان قبل سنوات قليلة مستحيل القيام به.[9]

الخلاصة أن إثيوبيا اتبعت خلال فترة حكم ميليس زيناوي اختيار التوقيتات المناسبة وسياسة النفس الطويل في السعي لتحقيق أهدافها، والمماطلة لإنجاز السد على أرض الواقع حيث فضلت أسلوب المناورة والخداع، وقامت بإخفاء التفاصيل الكاملة عن السد منذ الإعلان عنه بالإضافة إلى أن قبولها تشكيل اللجنة الدولية لم يكن سوى على سبيل المناورة خاصة وأنها اشترطت أن لا تكون توصياتها ملزمة من الناحية القانونية فضلاً عن المماطلة في تشكيلها بداية من أبريل 2012 بعد عام وضع حجر الأساس للسد مرورا بتأخر تقديم الدراسات واستغراق اللجنة 14 شهرا لتقديم تقريرها النهائي بعدما كان يفترض أن تقدم تقريرها في 6 أشهر فقط.

ارتباك في الموقف المصري في عهد الإخوان:

انتخب ديسالين رئيسا للوزراء بعد الوفاة المفاجئة لزيناوي إثر الأزمة الصحية التي تعرض لها، في وقت كانت العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا تشهد توترا غير معلن خاصة من الجانب المصري حيث شهدت بداية عهد ديسالين مفاوضات مكثفة وظهر تملل مصري واضح من الجانب الإثيوبي في ظل قيام إثيوبيا بإجراء عملية التحويل لمجرى النيل الأزرق، عقب اللقاء الذى عقده آنذاك الرئيس المعزول محمد مرسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي في أديس أبابا بيوم واحد، وقبل صدور تقرير اللجنة الثلاثية بيومين، وهو الأمر الذي حمل دلالات سياسية دقت الكثير من أجراس الإنذار في مصر، بأن إثيوبيا مصرة على المضي منفردة في إنشاء السد، وأنها لا تعبأ بتقرير اللجنة أو بالتحفظات المصرية، مما أثار ضغطا شعبيا عنيفا على نظام الرئيس محمد مرسي وحكومته[10].

وأرجع البعض التوقيت الاثيوبي إلى موافقة هذا التاريخ ليوم وصول الحزب الحاكم للسلطة في أديس أبابا عام 1991 حيث تركزت احتفالات الحزب في هذا العام على مشروع سد النهضة كإنجاز تاريخي وغير مسبوق، بالرغم من الرفض المصري السوداني، والمطالب المصرية بوقف عملية إنشاء السد لحين الانتهاء من الدراسات.

سد النهضة

أما العامل الثاني فقد تمثل في صدور تقرير اللجنة الثلاثية بعد ذلك بعدة أيام، وما انتهى إليه التقرير بعد اجتماعات استمرت عاما ونصف العام، من أن الجانب الإثيوبي لم يقدم إلى اللجنة دراسات وافية سواء عن التصميمات الإنشائية أو الدراسات الهيدرولوجية والبيئية، أو عن آثار السد على دولتي المصب، بالإضافة إلى ما أكده التقرير من أن جميع الدراسات والوثائق المقدمة من الجانب الإثيوبي ليست على مستوى التفاصيل أو الموثوقية التي تحقق الحد الأدنى من معايير الدراسات العالمية المطلوبة لتنفيذ سد بمثل هذا الحجم، مما أدى في النهاية إلى عدم قدرة اللجنة على تقييم مدى سلامة السد الإنشائية أو آثاره السلبية على مصر والسودان.

وأوصى التقرير بضرورة وجود دراسة شاملة لمشروع سد النهضة الإثيوبى فى سياق النظام المائي في حوض النيل الشرقي، واستخدام أدلة متطورة ومحترفة وقابلة للتنفيذ حول نظام تدفق المياه ونماذج توليد الطاقة الكهرومائية، مع ضرورة إعادة النظر فى هذه الدراسة حتى يمكن تقييم التأثيرات والمنافع على دول المصب بشكل تفصيلى ودقيق، وبشكل يعكس الثقة.[11]

وأكد التقرير ضرورة تضمن عدة نقاط وقضايا وهي وضع بيانات تفصيلية ودقيقة عن نظام تدفق المياه وتوليد الطاقة فى السودان ومصر، وتقييم الأثر على حركة وتدفق المياه فى السنوات الأولى لملء بحيرة التخزين الملحقة بمشروع سد النهضة، وتقييم الآثار المتوقعة على مصر والسودان من خلال جميع السيناريوهات المتوقعة خلال ملء الخزان الملحق بالسد، ووضع وتقييم جميع قواعد وسياسات التشغيل التى ستتعامل بها إثيوبيا بعد بناء السد وتقييمها وفق الميزان والنظام المائي في حوض النيل.

وأوصى التقرير بضرورة أن يتم الانتهاء من هذه الدراسة وإعادة تحديثها وتقديمها إلى الحكومات المصرية والإثيوبية والسودانية للاتفاق حول نتائجها واتخاذ ما يلزم من اتفاقات وقرارات مشتركة بشأن التغيرات والتأثيرات المتوقعة بعد أن يتم حسابها بشكل علمى دقيق وليس بشكل عشوائي.

واضطر رئيس الوزراء المصري السابق هشام قنديل إلى إلقاء بيان أمام مجلس الشورى في 10 يونيو 2013، كان أهم ما ورد فيه أن مصر ترفض السد لأضراره الكبيرة بها، ومن ثم فإنها سوف تتعامل مع ذلك عبر الأدوات الدبلوماسية والسياسية والقانونية و”غيرها”.[12]

وهذا الموقف يعد تطورا قويا بالمقارنة مع المواقف التي سبقت هذا البيان والتي كان يعلنها وزير الري المصري الدكتور محمد بهاء الدين والتي كانت تسعى في مجملها إلى التهوين من آثار وتداعيات السد، وتقصر رد الفعل المصري في حالة ثبوت التأثيرات السلبية للسد على السعي إلى التفاوض مع إثيوبيا حول عدد سنوات ملء خزان السد وكذلك السياسة التشغيلية، الأمر الذي كان يعنى انهيار الموقف التفاوضي المصري، قبل أن تبدأ أي مفاوضات أو تحركات جدية حول أخطار السد وتداعياته على المصالح المائية المصرية.

وعقب الاجتماع التشاوري الذي عقده الرئيس المعزول محمد مرسي مع بعض القوى السياسية، والذي تمت إذاعته على الهواء وتسبب في حرج كبير لمصر، وحمل إساءة لتاريخ علاقاتها مع أفريقيا بعد بثه على الهواء مباشرة دون إبلاغ الحاضرين، بدأت مرحلة من التراشق السياسي والإعلامي بين البلدين.

تمسك أثيوبي بتنفيذ سد النهضة:

ولم يقل رد الفعل الإثيوبي عن نظيره المصري من حيث الحدة أو التحدي، فقد أعلنت إثيوبيا صراحة أن بناء السد لن يتوقف تحت أي ظرف،[13] وأن المشروع بدأ ليكتمل، وبدأت الصحف تعبر عن ذلك الموقف، فمن خلال مطالعة النسخة الأمهرية لمقال صحيفة “ريبورتر” يوم 5 يونيو 2013 نجد عنوان “سد النيل الأزرق ليس “تجربة” تنتهي بالتهديد بالحرب، وإنما هو مشروع مستقبلي لشعب، يبنى بقرار حاسم”، وذلك ردا على الموقف المصري الذي لوح بالتهديد بتدمير السد حال إنشائه، حيث أخذ المقال في عرض وجهة النظر الإثيوبية في أحقيتها في بناء السد، ويرد على المآخذ المصرية والسودانية التي تطالب بوقف بناء السد، فبدأ بعرض موقف إثيوبيا من اتفاقيات تقسيم مياه النيل والظلم الذي عانته إثيوبيا.

 وجاء التعبير عن الموقف الحكومي بشكل أكثر دبلوماسية وهدوءا، والذي يمكن رصده من خلال المقال المنشور في جريدة أديس زمن الحكومية، بتاريخ 8 يونيو، وجاء فيه بلغة هادئة: “صرحت الخارجية الإثيوبية بأن علاقة إثيوبيا الخارجية مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ومن هذا المنطلق، وحرصا منها على إزالة الشكوك التي خيمت من بداية فكرة سد النهضة، اقترحت إثيوبيا تشكيل لجنة من الخبراء المصريين والسودانيين والإثيوبيين بالإضافة إلى خبراء دوليين، تكون مهمتها دراسة وتقييم الآثار السلبية المحتملة على دولتي المصب مصر والسودان، وبالفعل تم تشكيل اللجنة وقامت بأعمالها المنوطة بها، وغداة إعلان نتيجة اللجنة المذكورة، والتي أشارت إلى عدم وجود آثار سلبية واضحة تضر بمصالح دولتي المصب مصر والسودان، صدرت من بعض المسئولين المصريين وبعض الأحزاب حملات ودعوات غير مقبولة، أحزنت الحكومة الإثيوبية والشعب الإثيوبي، والتي يمكن أن تعرقل مسيرة تطوير العلاقة الطيبة بين البلدين والتي بدأت مؤخرا، وفي الأيام القليلة الماضية حاولت الحكومة الإثيوبية أن تحول دون اتجاه الأمور إلى التصعيد، إلا أن هذه الحملات غير البناءة لم تتوقف، ما اضطر الخارجية إلى استدعاء السفير المصري لتقديم تفسير لهذه الحملات.[14]

وحرصا من الحكومة الإثيوبية على أمن واستقرار البلاد تبنت منذ فترة طويلة مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة في العلاقة الخارجية، واستنادا إلى هذا المبدأ ترغب الحكومة الإثيوبية مواصلة تطوير العلاقة الطيبة مع مصر، ونذكر هنا بأن بناء سد النهضة الذي يهدف إلى تسريع وتيرة التنمية في البلاد يمكن أن تستفيد منه دول الجوار؛ بما فيها مصر”.

مفاوضات سد النهضة

غير أن القاهرة حاولت احتواء ذلك عبر زيارة وزير الخارجية السابق محمد كامل عمرو إلى أديس أبابا في 18 يونيو 2013، والتي يمكن القول إنها كانت زيارة استكشافية، وإن كانت تمثل أيضا أهمية نوعية، حيث إنها سعت إلى نقل الأزمة من خانة التراشق السياسي والإعلامي إلى خانة التفاوض السياسي المباشر، مع السعي بشكل عملي إلى الوصول إلى تفاهمات وحلول وسط، إلا أن النتائج العملية للزيارة كانت محدودة للغاية حيث تمثلت في الموافقة على البدء في مشاورات، حول كيفية المضي قدماً في تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، بما في ذلك الدراسات التي أوصى تقرير اللجنة بإعدادها، وهو الأمر الذى لم يتم الشروع فيه بشكل بسبب ثورة 30 يونيه حيث تأخر الأمر لعدة شهور، ولم ينعقد سوى في نوفمبر 2013، حيث تواصلت اجتماعات متلاحقة بين وزراء الري في البلدان الثلاثة، مصر، السودان، واثيوبيا، وهي المفاوضات التي لم تحقق أي تقدم على الأرض.[15]

عودة مسار المفاوضات:

ففي الاجتماع الأول الذي انعقد يوم 4 نوفمبر 2013 طلبت مصر سرعة الانتهاء من الدراسات التي اوصى تقرير لجنة الخبراء بها والمرتبطة بالتأثيرات البيئية للسد والآثار السلبية على دولتي السودان، على أن يقوم بهذه الدراسات خبراء عالميون مشهود لهم بالكفاءة من خارج دول حوض النيل وليس خبراء إثيوبيين، فيما لم تطلب مصر خلال هذا الاجتماع وقف العمل في بناء السد لحين اكتمال الدراسات، وهو الطلب الذي بدأت مناقشته في الاجتماعات اللاحقة لكن الجانب الإثيوبي أكد أن لجنة الخبراء الدولية أكملت مهامها ولم يعد لها وجود، وأنها بدأت بالفعل في الدراسات التي أوصى بها التقرير وقطعت شوطاً فيها، حيث أكد وزير الري الإثيوبي بمؤتمر صحافي لاحقا أن بلاده تستند على 4 مبادئ اساسية وهي الفائدة للدول الثلاث والاستفادة المنصفة والمعقولة من مياه النيل، وعدم إلحاق ضرر ذي شأن بالدول الأخرى والتعاون التام وحسن النية مع كل دول الحوض[16].

وقام رئيس الوزراء الإثيوبي بزيارة في ديسمبر 2013 إلى السودان حيث أعلن خلالها الرئيس السوداني المعزول عمر البشير تأييده لسد النهضة بسبب الفوائد الكثيرة التي ستعود على السودان من إنشائه لينهي البشير حالة الارتباط في موقف السودان تجاه السد ويضعف التكتل السوداني المصري ضد بقية دول حوض نهر النيل والمستمر من أغسطس 1959 تاريخ توقيع اتفاقية مياه النيل بين البلدين، بينما طلبت مصر في الاجتماع التالي بعد أيام من تصريحات البشير وقف عملية البناء في السد.

ونجحت مصر في استصدار قرار رسمي من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وإيطاليا والبنك الدولي بوقف تمويل بناء سد النهضة وتجميد قروض دولية لإثيوبيا بقيمة 3.7 مليار دولار، فيما استمرت المفاوضات دون جدوى حتى اللقاء الذي جمع بين ديسالين والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مالابو خلال ترأس السيسي الوفد المصري المشارك بالقمة الافريقية يونيو 2014 حيث صدر بيان مشترك تضمن قرارا بتشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر لتناول مختلف الجوانب.

وجرى استئناف اجتماعات سد النهضة في العاصمة السودانية، الخرطوم في 25 أغسطس 2014، وأكد الدكتور حسام مغازي، وزير الموارد المائية والري أن أديس أبابا وافقت على عقد الاجتماع الثلاثي في إطار محددات البيان المشترك الذي صدر بعد لقاء الرئيس السيسي وهايلي ميريام ديسالين، رئيس وزراء إثيوبيا، الذي يعد حجر أساس جديدًا للتحرك، ووضع جدول زمني محدد للانتهاء من المفاوضات، وآليات تنفيذ التوصيات النهائية للخروج من الأزمة الحالية.

أبدت إثيوبيا تحفظاتها على أجندة الاجتماعات مقدمًا، وأفرغت إعلان مالابو من محتواه، حيث صرح فقيه أحمد، مدير الأنهار العابرة في وزارة المياه والطاقة الإثيوبية، في منتصف يوليو 2014 بأن المفاوضات ستبدأ من حيث انتهت الجولات السابقة، التي توصلت إلى تشكيل لجنة من الدول الثلاث، مهمتها دراسة مقترحين أساسيين هما: “الهيدرولوجيا، والآثار البيئية، والاجتماعية، والاقتصادية للسد”، وأن اللجنة يمكنها إشراك مستشارين وخبراء في دراسة هذه المقترحات.

وبعد أن عقد الاجتماع، تبخرت كل هذه الأفكار والرؤى الجديدة، حيث أسفر الإعلان عن التوصل إلى إقرار مصر، والسودان، وإثيوبيا خريطة طريق لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية لتقييم سد النهضة الإثيوبي، يبدأ تنفيذها في الأسبوع الأول من سبتمبر 2014، وتنتهي في مارس 2015، لتنجح إثيوبيا في المماطلة على مدار 5 سنوات

ونتيجة للاجتماعات المكثفة التي جرت وقع رؤساء مصر، السودان، إثيوبيا إعلان مبادئ يحدد إطار التزامات وتعهدات تضمن التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث بشأن قواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي حيث تضمن 10 نقاط. [17]

ورغم أن وثيقة إعلان المبادئ لا تعدو أن تكون مجرد وثيقة استرشادية حاكمة وناظمة لعدد من المبادئ والأسس التي ستمثل الإطار العام لأية اتفاقيات لاحقة لتقنين العلاقات بشأن سد النهضة، فالإعلان يتضمن عشرة مبادئ أساسية تتسق في مجملها والقواعد العامة في مبادئ القانون الدولى الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية، ومن ثم، فهي ليست اتفاقية بالمعنى الحرفي، وجاءت في توقيت مهم لإزالة حالة القلق والتوتر التي خيمت على العلاقات المصرية-الإثيوبية نتيجة الخلافات حول قضية “سد النهضة”.

وأسس الاتفاق لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق فيما يتعلق بتشغيل السدود، حيث يوفر أرضية صلبة لمبادئ حاكمة تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين مصر، وإثيوبيا، والسودان حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي بعد انتهاء الدراسات المشتركة، فضلاً عن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للإشراف على والتعاون في عملية تشغيل السد بما يضمن عدم الإضرار بمصالح دول المصب.

 لكن الأمور لم تسر كما كان متوقع بالرغم من زيارة السيسي للعاصمة الاثيوبية في زيارة رسمية وإلقاء كلمة في البرلمان الإثيوبي بعد توقيع إعلان المبادئ، واستمرت المماطلات الاثيوبية، حتى القمة الثلاثية التي جمعت بين السيسي والبشير وديسالين، على هامش فعاليات اجتماعات الدورة الـ30 لقمة الاتحاد الإفريقي، التي عقدت في أديس أبابا حيث استمر اللقاء لساعات طويلة، تخللتها مناقشات لكافة العناصر الفنية محل الخلاف بين الدول الثلاث حول بناء السد انتهت بخروج القيادات السياسية من الاجتماع لتأكيد حل الأزمة عبر التفاهم بينهم للحفاظ على مصالح كل دولة، ونفى السيسي والبشير وجود أزمة حول السد، وأعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري أنه سيتم حل كافة القضايا الفنية العالقة للسد خلال شهر واحد، وهو ما لم يحدث بسبب الاضطرابات التي حدثت في إثيوبيا وأجبرت ديسالين على الاستقالة بعد أسابيع من اللقاء.

المراجع

[1] يزن عبد العزيز، “سد النهضة الإثيوبي والأمن القومي المصري: 2011-2015″، رسالة ماجستير، (عمان: كلية الدراسات العليا, الجامعة الهاشمية، 2016), ص 16.
[2] ماهر ناي الكريم، “اثر قيام سد النهضة الأثيوبي في استراتيجية السودان المائية”، رسالة ماجستير (الخرطوم: جامعة أم درمان, 2016), ص 22.
[3] أحمد أمل، “الديمقراطية الثورية ونظام الحكم الاثيوبي منذ 1991″، في مجلة الشؤون الأفريقية، (القاهرة: مجلة الشؤون الأفريقية, المجلد الثاني، العدد الثامن، أكتوبر 2014), ص 32.
[4] يزن عبد العزيز، مرجع سبق ذكره, نفس الصفحة.
[5] مصطفى إبراهيم، مصر وتحدياتها الاستراتيجية: سد النهضة نموذجاً، (القاهرة: المعهد المصري للدراسات. 19 نوفمبر 2017), ص 13.
[6] ماهر ناي الكريم، مرجع سبق ذكره, ص 24.
[7] د.أيمن السيد عبد الوهاب، “سد النهضة.. نظرة على الحصاد”، القاهرة, مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، متاح علي الرابط التالي:
http://acpss.ahram.org.eg/News/16815.aspx
[8] د. بسام حسن وآخرون، “العوامل التي تؤدي لإعادة العمل في مشاريع التشييد”، في مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية (اللاذقية: سلسلة العلوم الهندسية, جامعة تشرين, المجلد 36 , العدد2، 2014), ص 17.
[9] ماهر ناي الكريم، مرجع سبق ذكره, 30.
[10]هاني رسلان، “الموقف المصري من سد النهضة”، الدوحة, مركز الجزيرة للدراسات، متاح علي الرابط التالي:
http://studies.aljazeera.net/ar/issues/2013/11/20131179547409363.html
[11] د.أيمن السيد عبد الوهاب، “سد النهضة منهاج حاكم للعلاقات المصرية الإثيوبية”، في الملف المصري، (القاهرة: مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 51, نوفمبر 2018), ص 19.
[12] هاني رسلان، مرجع سبق ذكره, نفس الصفحة.
[13] ايمن السيد عبد الوهاب، مرجع سبق ذكره, ص 21.
[14] ماهر ناي الكريم، مرجع سبق ذكره, 33.
[15] د.أيمن شبانة، “العلاقات الاثيوبية الاقليمية والدولية”، في الملف المصري، (القاهرة: مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 51, نوفمبر 2018), 12.
[16] ماهر ناي الكريم، مرجع سبق ذكره, 37.
[17] د.خالد حنفي علي، “إعادة تعريف السياسية الإثيوبية وتأثيراتها على مصر”، في الملف المصري، (القاهرة: مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 51 نوفمبر 2018), ص 15.

*باحث ماجستير متخصص في الشأن الأفريقي