الديوان الإسبرطي.. تأصيل التساؤلات التاريخية والعودة إلى الجذور

أحمد أسامة

أُعلنت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية اليوم عن فوز رواية “الديوان الإسبرطي” للكاتب الجزائري، عبد الوهاب عيساوي بالدورة الثالثة عشر للجائزة المعروفة إعلاميا بجائزة البوكر العربية.

وقال محسن الموسوي، رئيس اللجنة خلال إعلان الفائز عبر تقنية البث المباشر إن رواية الديوان الإسبرطي تتميز بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتلال الجزائر روائيًا ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية. مشيرا إلى أن هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله.

اعتمد “عيساوي” في روايته التي تندرج تحت صنف الروايات التاريخية، على أسلوب سردي بحت، بأصوات متعددة، أرَّخ فيه لأحوال مدينة الجزائر، العاصمة، في الفترة الزمنية الممتدة من 1815، الموافق لهزيمة نابليون في معركة واترلو الشهيرة، حتى 1833، والتي توافق إنهاء اللجنة الإفريقية الفرنسية من أعمالها التفتيشية على الجزائر، وما تخلل تلك الفترة من غزو واحتلال فرنسا للجزائر.

نرشح لك: أقوى 10 قنوات للبوكتيوبرز على اليوتيوب

الرواية رصدت تفاصيل الحياة اليومية بالجزائر في تلك الفترة، كما رصدت التنوع العرقي الثري بين قاطني المدينة، ما بين “المور” وهم أهل المدينة الاصليين من ساكني شمال إفريقيا، والأتراك الحاكمين، وفرقة اليولداش التركية العسكرية، والعرب، والأجانب أيضا، وكيفية التعامل بين تلك الأعراق. كما رصدت مساوئ وقوع الجزائر تحت الحكم العثماني والفرنسي على السواء، فالحكم التركي لم يكن همه سوى نهب ثروات المدينة، وإرسالها إلى الباب العالي في تركيا، دون الاهتمام بتطوير الحياة في المدينة، أو تحصينها، والحكم الفرنسي كان همه تغيير معالم المدينة، وطمس كل تفاصيل الحياة العربية والاسلامية والأصلية، بحجة إرساء معالم الحضارة الاوربية، وإزالة العقبات التي قد تكون حجر عثرة في سبيل ذلك التقدم والتطور.

ألقت الرواية الضوء على فسدة الضمائر، والمتقلبين على كل جناح، الأكالين على جميع الموائد، لا يهمهم أين الحق من الباطل، فكل ما يسعون إليه هو كيفية الاستفادة من الوضع القائم، وتقديم مصالحهم وانتفاعاتهم الشخصية، فجاءت الرواية مثل سلم موسيقي، شاملة لجميع الأصوات من جميع الفئات، مع عرض تخيلي ثري، لفترات تاريخية متلاحقة، بدون تجميل أو تشويه، لتلك الفترات، بشكل لا يخلو من التشويق، وحبس الانفاس.

الرواية تعتمد على خمسة أًصوات، تناوبت فيم بينها على سرد الأحداث وشرحها من وجهة نظرها، كل شخصية تبرر لتصرفاتها وتفسر ردود أفعال الغير حسب أفكارها وقناعاتها، فجاءت الرواية أشبه بسلم دائري، فإذا أحاط القارئ علما بالصورة الكاملة للحدث، من شتى النواحي، ينتقل به الكاتب إلى المستوى الاعلى لتطور الأحداث، وهكذا حتى ينتهي مسار كل شخصية، وتنتهي معها أحداث الرواية.

نرشح لك: 100 كتاب ورواية يرشحها لك المثقفون للقراءة خلال حظر التجول

ديبون، المراسل والكاتب الصحفي لدى إحدى الصحف الفرنسية، والذي يتم انتدابه لمرافقة الحملة الفرنسية على الجزائر، لتوثيق يوميات الحملة، والتي صادفت هوى ما في نفسه، فهو المسكون بأحلام السذاجة، والمؤمن برسالة الحضارة الأوربية، في مهمتها لإنارة الدرب للمتأخرين حضاريا، ونشر تعاليم الرسالة المسيحية، والمتأثر لخسارة نابليون لمعركة واترلو.

كافيار، القائد العسكري السابق، والجندي المهزوم، الذي لم يستوعب ولم يقتنع، بجنون عظمة نابليون، ولم يتأقلم يوما ما على القبول بهزيمة معركة واترلو، وانهيار حلم السيطرة الفرنسية. أيضا هو الاسير السابق، الذي ذاق الامرين على يدي الأسر التركي، والمندهش من خضوع المور لهم بلا مبرر، بالإضافة لكونه الجاسوس والمنتقم، المدبر والمخطط لحملة الاحتلال الفرنسي، كبديل للحلم الفرنسي المنهار، والتجسيد الأمثل، لفكرة الاستعمار، كما يجب أن تكون.

ابن ميار: الموظف الحكومي، وكاتب الديوان الأميري، الواقعي، والمؤمن بفكرة السياسة، واللجوء على المفاوضات والمرافعات. ابن ميار لا يعرف لمصطلح اليأس او الاستسلام مكانا في قاموسه، والمستمر في محاولاته لفرض صيغة للتعايش السلمي، والحفاظ على حقوق المواطنين، طالما مازال حيا وفيه عرق ينبض، مثال للشخص الحالم، الذي غالبا ماتكون صدمته شديدة، عند تحطم أحلامه على صخرة الواقع.

حمة السلاوي: رمز الثورة، والمقاومة، المواطن البسيط، والدرويش الجائل، ليس في حياته سوى مبدأ واحد “ما أخذ بالقوة، لا يسترد الا بالقوة”، وأن السفلة لا مجال للحديث معهم، أو معاملتهم، إلا بأسلوب أكثر انحطاطا منهم، فهذه هي اللغة الوحيدة التي يعرفونها، ويرضخون لها. ليس له من مصلحة، ولا يلهث وراء فائدة ترتجى، إلا ان يعيش في سلام، والتنسم بهواء الحرية الذي أشتاق اإيه، وبه يستطيع التعرف على مدينته.

دوجة: الخادمة، والصوت النسائي الوحيد، التي واجهت شظف العيش، وهرستها تقلبات الحياة، رمز المرأة البسيطة، الباحثة عن الحب، والساعية للتمسك به إلى المنتهى، حتى لو كلفها ذلك الانتظار العمر كله، والبقاء في محيط محتل، لتكون النتيجة الحصول على ماتريد.

اعتمدت الرواية منذ البداية على جذب انتباه القارئ، واللعب على وتر الفضول والتساؤل لديه، فالقارئ والفضول نادرا ما يفترقان، فجاء الغلاف عبارة عن لوحة فنية، مرسومة يدويا، تؤرخ لواقعة المروحة الشهيرة، والتي تعدى فيها داي الجزائر، على القنصل الفرنسي، مسيو دوفال، عقب استفزاز الاخير له، وإهانته، والتي اتخذتها فرنسا ذريعة وحجة، لتجريد حملة عسكرية، لاحتلال الجزائر.

نرشح لك: نصائح أحمد عبد المجيد للانتظام في القراءة يوميا

أما العنوان فلم يخل من أسلوب شعري، وإحالة تاريخية، فمع القراءة سيكتشف القارئ، أن كافيار، مخطط الحملة، دون مذكراته أثناء فترة أسره في الجزائر، وكثف من جهوده في محاولة رصد ثغرات المدينة، ونقاط ضعفها، فاعتبر الجزائر أو المحروسة، كما كانت تسمى آنذاك، مثل اسبرطة اليونانية القديمة، وتقاطع مصيرهما في حالة الحرب، كما أنه أضاف لتلك المذكرات، كل التفاصيل المتعلقة بالحملة العسكرية، وما تحتاج إليه من مؤن وأسلحة وذخائر، وكل التفاصيل التي من شأنها إنجاح تلك الحملة، وإقناع النظام الحاكم في فرنسا، بجدوى تلك الحملة، فلفظ الديوان من مفرداته أيضا الدفتر فيم يخص تسجيل المعلومات العسكرية، لذا كان العنوان في النهاية، حاملا لوجه جمالي بديع، ودقة متناهية في رصد تقاطع المصائر، فيم يتعلق بالاحداث التاريخية. كما أن الرواية تقاطعات فيها مصائر الشخصيات مع مصائر الأحداث، مكونة للوحة سردية لمصير مدينة الجزائر.

وبعيدا عن السرد، طرحت الرواية العديد من التساؤلات حول التاريخ ومن يكتبه، وهل للحكاية وجهة نظر واحدة؟ وما مصير الشعوب من هذه المعارك التاريخية؟ وهل يشعر البسطاء بمعنى الانتصار أم أنهم الخاسر الوحيد في كل المعارك والصراعات.

رواية الديوان الإسبرطي، درس جديد، في فنون كيفية كتابة الرواية التاريخية، بعيدا عن الأسلوب الكلاسيكي المعروف، التقريري والتسجيلي، كما أنها تضرب على وتر حساس، وستجد لها مناصرين شتى، خاصة في الوقت الحالي، مع تصاعد حدة الانتقادات الموجهة لتركيا، وإعادة تأريخ فترة سيطرتها على العالم العربي والأسلامي، بالاحتلال العثماني.

نرشح لك: 9 معلومات عن عبد الوهاب عيساوي الفائز بالبوكر العربية 2020