أدهم العبودي يكتب: نُقَّاد تحت الطلب

إذا نظرتَ إلى الحالة النقدية المصرية فكم ناقدًا يُمكنك أن تحترم؟ كم ناقدًا يُمكنك أن تراه متجرّدًا نزيهًا حياديًا؟ كم ناقدًا التفت –ولو من باب مزاولة المهنة- لتيارات الكتابة الشبابية وحاول –مجرّد محاولة- أن يرصدها؟

ولمزيدٍ مِن المكاشفة، يجوز لي التساؤلات، وإن بدت للبعض جزافية، فمثلًا: لماذا توقّف النقد المصري الفذّ عند جيل الستينات ولم يتجاوزه؟ ألم يحدث تراكم إبداعي على مرّ هذه السنين؟ طيّب ونقّاد السبّوبة! أين هم من هذه الحِسبة العويصة؟ ونقّاد نجيب محفوظ الخصوصيون؟! أو بمعنى أدق “أرامل محفوظ” على حدّ قول أحد الأصدقاء، هؤلاء توقّفوا عند محفوظ ويعتبرونه إلهًا لا يُمكن تجاوزه، مع التقدير الكامل لمنجزه الفريد، لكن؛ ما زالوا حتّى الآن –وهذا غريب- يتقوّتون على إبداعات محفوظ عامًا وراء عام، ويتكسّبون مكاسب هزيلة، ويفردون لنقدهم –الهزيل أيضًا- مساحات في الجرائد والمجلّات والدوريات والندوات والمؤتمرات، في الوقت الذي لو أمكنك فيه مراجعة الأمر، لوجدت أنّهم لا يقدمون جديدًا بشأن محفوظ، بل يقولون ويكتبون ما قيل من قبل وما كُتب، بالأحرى، يُعيدون تدوير كل الرؤى التي تناولت أدب محفوظ، وهنا الأزمة، لأنّهم لم يخرجوا لأكثر من مسافة الهوس بمحفوظ، ومحفوظ فقط، ولا أحد غيره، ولم يفكّر ناقد منهم أن يضيف رؤية مغايرة أخرى عن هذه أو تلك التي رآها غيره منذ سنوات بعيدة.

هذا فريق؛ أرامل محفوظ، وعلى الجانب الآخر أكثر من فريق، فريق جيل الستينات، وهؤلاء كُثر، ولا يُمكن حصرهم، ينشرون نقدهم في كلّ الدوريات المتخصّصة، وغير المتخصّصة، في مطبوعات الدولة، واللا دولة، يصدّعون رؤوسنا بهراء ليس أكثر منه ولا أزعج، حتّى صار جيل الستينات هو هذا الجيل الذي ينطبق عليه القول الشّائع: لا يفنى ولا يُستحدث من عدم.

وثمّة فريق آخر، هو فريق التسعينات، بالشللية المعروفة، والعزومات الشّائعة، والمجاملات المجانية، معظمنا كان شاهدًا على ممارسات من هذا النوع، ممارسات أصبحت عرفًا سائدًا، يتقاسمون الكتابة عن بعضهم البعض، ويتقاسمون النصيب في الجوائز أيضًا، يتبادلون الأدوار بكلّ أريحية، وإذا وقفت وتلمّست وتفحّصت وأدنت، اتّهموك، وأهانوك، واستبعدوك خارج دوائر أيّة منافسة، لأنّ المنافسات هنا ابتعدت كثيرًا عن كونها شريفة أو ذات معيار، إذا لمّحت لهذا فحسب، سرعان ما ستصبح هذا الشّخص العدائي قليل الأدب، الذي لابدّ وأن تصبح كتابته ساذجة وسطحية، وأيّ كلام في كلام، لأنّك لا تشبههم، ولا تريد أن تكون واحدًا منهم، بكل ما يمارسونه لبعضهم البعض!

وهناك فريق محدود، وهو الذي لم يزل يُقيم الأمور في نصابها الصحيح، وهم أقليّة، لكن لم يعد متاحًا لهم ولكتاباتهم غير الفيس بوك وبعض المواقع الفقيرة، ونادرًا ما يطيش العيار فينفتح باب بالصدفة، سرعان ما يغلقونه أمام الناقد الحقيقي.

وبين كل هذا وذاك يضيع جيل كامل من الشباب، جيل شعر بالمسئولية فوهب نفسه للكتابة الصادقة الحقيقية، وراهن على المتلقّي، ونجح في رهانه، هذا الجيل الذي تعمّد نقاد مصر ألّا يرونه، تعمّدوا أن يستبعدونه من جميع الحسابات، المكتوبة والمرئية، هنا المجال لا يسمح بذكر بعض الأسماء كأمثلة، لأن الأسماء كثيرة والله، غير أن نقّاد مصر الأفاضل توقّفوا، وتراجعوا، وأداروا ظهورهم للشباب عمدًا، واكتفوا بأسماء بعينها، أخذت كلّ مجد، ولم تعطِ شيئًا، أخذت كلّ الجوائز بلا أحقيّة، أخذت كلّ ما هو في الأصل لغيرها، وشربت بعده جرعة ماء، هذه الأسماء التي توقّف عندها النقّاد موجودة حولنا، ومضطّرون للتعايش معهم، ربّما لأنّنا نحب بعضهم، وربّما لأنّنا لا نملك حيلة، أجل مغلوبون على أمرنا نحن أجيال الشباب، فلا الكتّاب الكبار يروننا، ولا النقّاد المدهشون يكتبون عنّا.

أصبح  نقّاد مصر تحت الطلب، قايضوا أنفسهم بالمنفعة والمصلحة، وغضوا الأبصار عن كتابات الشباب التي تحتل اليوم مساحة ضخمة من الوعي العام عند المتلقي، أغلب هذه الكتابات حصدت جوائز دولية وعربية، وإن كان أصحابها لم يحصدوا جائزة مصرية واحدة!

نرشح لك: تعرف على تردد القنوات التعليمية