مذكرات طفل ريفي (6).. ست البنات

عبد البصير حسن

أتذكر أنه كان هناك ثلاثة أجهزة تليفون يدوي تقليدي في قريتنا إلى ثمانينات القرن الماضي، أحدها لدى “دوار العمدة” ونسميها في قريتنا “السرايا” واثنتان أخرتان لدى بقالين كبيرين دون غيرهما، حيث كانت هي وسيلة التواصل بين القرية ومحيطها البعيد والقريب قبل أن تدخل القرية خطوط جديدة مع توسع شبكة الهاتف الأرضي في ذلك الوقت. فلم يكن المحمول جاء على “البال أو الخاطر في وقتها”.

أتذكر أن أحد أصدقاء وزملاء الدراسة بالمرحلة الإعدادية استغل قيلولة والديه وطلب رقم زميلة له في الفصل الدراسي في قرية مجاورة و”عاكسها” بأن وصفها بأنها “حلوة” وعرفها باسمه بعفوية وأغلق الهاتف سريعًا خوفًا وخجلًا بحسب ما رواه لي وقتها وكنت مقربًا له.
توقعت له حسابًا عسيرًا وقد كان، عوقب من والديه عقابًا شديدًا وكذا من مدرسي المدرسة ومن التلميذة وشقيقاتها وأشقاءها وأبناء عمومتها بعدما حكت لهم ما حدث… لم أسمع منه أنه كررها خلال العقود التالية.

تربينا في قرانا على يد آباء وأمهات وترعرعنا بين أقارب وخلان، وتتلمذنا على يد معلمين كانوا جميعا يعتبرون “تلصص النظر” أو “مغازلة” أو “معاكسة” أو “مضايقة” أو “التطفل” على فتاة من المحرمات، وكان العقاب قاسيًا من هذا وذاك لدرجة أن “معاكسة البنات” كانت سبة في حق من يقع فيها، وتنال من قيمته بين أقرانه في ذلك الحين، سيما لو كان متفوقًا دراسيًا ومقبولًا اجتماعيًا.

هؤلاء علمونا أيضًا أن كل فتاة هي إما “اختك أو بنت عمك أو بنت خالك أو جارتك” هي “ست البنات” أو “ست الستات”، بحسب مرحلتها العمرية، وحالتها الاجتماعية، ولا يجب المساس بها بسوء قولًا أو فعلًا، فنشأ كثير من أبناء جيلي على ذلك الفهم لدرجة أن بعضنا “يختشي” حتى اللحظة أن “يرفع عينه” في أية أنثى غريبة عنه، ولا يجرؤ على توجيه أية “وصف سلبي أو إيجابي لفظيًا أو إشاريًا”، بحقها في محيط عام أو خاص، بل إني على ثقة أن بعضا من أبناء جيلي سيما من صعيد مصر لم يكن يسطع التواصل مع بنات عمومته أو أخواله في كثير من الأحوال إلا في الأحوال الجادة والظروف الاضطرارية.

بعض أبناء جيلي أيضًا لم يجرؤ على محاورة أنثى غريبة عنه إلا في المرحلة الجامعية في الكليات المختلطة ، بل والبعض لم يجرء على محاورة فتاة حتى بعد تخرجه في الكليات المحافظة ليس من قبيل “الخوف والنفور” ولكن من قبيل “الخجل والحياء”.
بعضنا حتى اللحظة يعتبر قبول أنثى غريبة أو قريبة محاورته والحديث إليه في مقام التشريف الذي يتعين عليه أن يقابله باحترام وتقدير ورقي وحسن قول وحسن تصرف وحسن ظن ورقي، في زماننا وبيئتنا لم يكن مصطلح “التحرش” جاء بعد لأنه يتخطى كل ما سبق إلى “البذاءة” وهذا سمت مذموم له أصحابه.

لكن ينبغي أن أقول أنه في زماننا كانت القيم مختلفة والسلوكيات مختلفة والوسائل مختلفة والبيئة مختلفة بل والتربية والنشأة مختلفة عن الوقت الحالي. وما يحدث في الشارع الآت بحق الإناث في الأعمار المختلفة ومن الفئات المختلفة يندى له الجبين.

نرشح لك: من مذكرات طفل ريفي (4).. “أم سعد خطّافة الرجالة”

شاهد: 10 معلومات عن مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة