حسين عثمان يكتب: هيكل لم يكن يكتب "بصراحة"..!

لا تجعل العنوان يصدمك، فإعادة قراءة التاريخ شيء صحي جداً، وهو مطلوب حتى في مواجهة الظواهر التاريخية، ولكن بشرط قراءتها والتفاعل معها بما يليق بها، ولا شك أن الراحل الكبير محمد حسنين هيكل، “الأستاذ” بكل ما تحمله الكلمة من معاني ومرادفات، أحد أربعة مع روز اليوسف ومحمد التابعي ومصطفى أمين، فعلوا كل شيء في بلاط صاحبة الجلالة، على حد وصف مؤرخ سيرة ومسيرة المهنة، الكاتب الصحفي محمد توفيق، أقول لا شك أن هيكل أحد أهم الظواهر التاريخية، بل إنه الظاهرة الأهم في تاريخ الصحافة العربية، والتي لم تعرف سواه فرداً بمقام مؤسسة، لم يتوقف هدير تفردها طوال خمسة وسبعين عاماً.

وعلى قدر هيكل وما يستحق، جاءت دراسة علمية موثقة، حصل بها الباحث يحيى حسن عمر، على درجة الماجستير في التاريخ من كلية الآداب جامعة القاهرة منذ نحو عامين، وعنها صدر كتابه “كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية” في يناير الماضي عن دار العربي للنشر والتوزيع، وقد انتهيت مؤخراً من قراءة متأنية متعمقة للكتاب الوثيقة، أحسبها تليق بقيمة وقامة هيكل، خاصة وأنني أحد دراويشه، ممن نشأوا وشبوا وشابوا على رؤاه وأطروحاته، كما أحسبها تليق بجهد دؤوب للباحث استمر ست سنوات كاملة، وقطع خلالها رحلة طويلة شاقة، بدأت بأولى مقالات الأستاذ هيكل “كنت أتمنى أن أكون معهم”، والمنشور بـ”روز اليوسف” بتاريخ 19 أغسطس 1943.

“يكاد يكون من المتفق عليه أن الأستاذ محمد حسنين هيكل هو الصحفي الأكثر تأثيراً في العمل الصحفي في مصر والعالم العربي خلال الستين عاماً الأخيرة، كما أنه – بالدرجة نفسها – الكاتب السياسي الأكثر تأثيراً في الفكر والحياة السياسية في الفترة ذاتها”.. هكذا أكدت مقدمة الباحث على مكانة هيكل، قبل أن يأخذنا إلى طرح رؤيته حول “المدرسة الصحفية في الكتابة التاريخية”، وتناوله لكتابات هيكل باعتبارها كتابات تاريخية، وهو هنا يناطح حرص هيكل المتجدد في حياته على نفي أنه مؤرخ، فكان يقول: “أنا رجل أعتقد في أمور، أضعها على الورق، وأعرضها على الناس، ليتقبلوها أو يرفضوها، بمقدار ما يجدون فيها من أشياء تهمهم”.

بنية بحثية دقيقة ومتشابكة ومركبة، أساسها قناعة الباحث يحيى حسن عمر، بتصدي هيكل للكتابة التأريخية، من واقع أكثر من 1400 مقالة وتحقيق صحفي وحوار، ومعها ستة وخمسون كتاباً، مؤكداً على رؤيته تجاه انحيازات هيكل السياسية والأيديولوجية، بمقولة لهيكل نفسه في كتابه “ملفات السويس” عن تصدي المشاركين في التجارب للكتابة التأريخية: “إن الذين يعيشون الحوادث هم في أغلب الأحيان آخر من يصلح لتأريخها، ذلك لأن معايشتهم للحوادث تعطيهم على الرغم منهم دوراً، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف بطبيعته اقتناع، والاقتناع بالضرورة رأي، والرأي في جوهره اختيار، والاختيار بدوره انحياز، والانحياز تناقض مع الحياد، وهو المطلوب الأول في الحكم التاريخي”.

وقد نجح الباحث في تفكيك ظاهرة هيكل في أربعة فصول، الأول منها يتناول حياة هيكل وكتاباته من البدايات وحتى إعلانه الانصراف مع بلوغه الثمانين، من خلال مقالته الشهيرة في “الأهرام” على يومين متتاليين بعنوان “استئذان في الانصراف – رجاء ودعاء وتقرير ختامي”، ثم ما بعد الانصراف وحتى الرحيل مروراً بثورة يناير وتوابعها، أما الفصل الرابع فيخصصه يحيى حسن عمر لخصائص أسلوب الكتابة عند الأستاذ هيكل، مؤكداً أن قدرات هيكل اللغوية المتفوقة، كانت إحدى أقوى أدواته في توجيه ذهن القاريء، نحو ما يريده له هيكل من سياسات وأيديولوجيات، وهو ما يفسر إحساسنا كقراء بالأستاذ هيكل كسياسي يكتب الأدب أو أديب يكتب السياسة.

لا تقلق، لم أغفل الفصلين الثاني والثالث، فهما في تقديري عظام الكتاب ولحمه، ويتناول فيهما الباحث كتابات هيكل قياساً على معياري الموضوعية والمصداقية على الترتيب، والموضوعية ببساطة هي تناول الأحداث في سياق متجرد لا يُضبط متلبساً بأي انحياز، كما أن المصداقية أن يحرص الشاهد على سرد حقائق ما عاشه ورآه رأي العين دون تزيد أو نقصان، وفي تقدير الباحث الموثق بمراجعات لكتابات هيكل في مختلف العهود، ومنها ما يتناقض فيه تناوله لنفس الوقائع في عهود مختلفة، فإن هيكل خرج عن مقتضيات الموضوعية والمصداقية في معظم كتاباته، ولم يكن خروجه هذا في كل أحواله، إلا لتعظيم هيكل ومن وما آمن به.

فكما يؤكد الباحث يحيى حسن عمر في خاتمة الكتاب، فإن الكتاب يجيب على التساؤل المتعلق بمدى الالتزام بالدقة وشمول العرض وغيرها من أوجه الموضوعية، وذلك من خلال بحث محددات وضعتها الدراسة للوقوف على مدى ارتباط كتابات هيكل بمعايير الموضوعية، ومن تلك المحددات الإحاطة بمعظم دقائق ووقائع الموضوع التاريخي، وتشمل الإحاطة بالأطراف المتداخلة والعوامل الفاعلة فيه، ومنها أيضاً الدقة في سرد الوقائع التاريخية والتحقق من مصادرها، وكذلك عدم ظهور “الأنا” الصارخة للمؤرخ، والذي يظهر في إبراز دور الذات ومدح المقربين وتشويه الخصوم، ومنها التوزيع المتوازن للكتابة طبقاً للأهمية، وغيرها من محددات الموضوعية التي حاد عنها هيكل كثيراً على حد رؤية الباحث.

وفيما يتعلق بمدى المصداقية في كتابات هيكل التاريخية، فقد أفادت الدراسة عبر الفصل الثالث، من خلال نقد العشرات من مرويات الأستاذ هيكل، ومقارنة هذه المرويات بعضها ببعض، ومقارنتها بروايات الآخرين ممن عاشوا الأحداث نفسها، ومنها ما يتعلق بالخطوات الأولى في حياته، وبداية علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر، ومنها ما يتعلق بمسيرة هيكل السياسية والمواقف التي جمعته بالشخصيات السياسية الكبيرة، ملوك ورؤساء وغيرهم، أوضحت الدراسة عبر استعراض تفصيلي للعديد من الأمثلة ومضاهاتها، أن كثيراً من روايات الأستاذ هيكل لا تستقيم، فبعض الروايات ينفي بعضها الآخر كلياً، كما أن بعضها يناقض بعضها الآخر بطريقة يتعذر معها الجمع بينها، ولم يغفل الباحث الأسباب.

ومفاجأة الباحث الأكبر، تمثلت في تفنيد أقوى ما تميزت به مؤلفات الأستاذ هيكل وكتاباته، ألا وهو التوثيق في كتاباته التاريخية، وذلك من خلال مناقشة موسعة شملت طرق الحصول على الوثيقة، والتعامل مع مصدرها ولغتها، وتعامله اللغوي معها في التعليق عليها واستخدامها في توجيه القاريء، وكذلك ناقش الباحث عدم التوثيق في بعض كتابات هيكل وأنواعه وأسبابه، وقدم دراسة إحصائية تحليلية لمدى توثيق بعض الكتب التأريخية الرئيسية لهيكل، وانتهى الباحث إلى أن نسبة توثيق المعلومات الرئيسية في أي من كتب الأستاذ هيكل لم تتجاوز 60%، كما أن نسبة الوثائق ذات الأهمية الحقيقية في أي من الملاحق الوثائقية لكتبه لم تزد على الثلث.

أضف إلى هذا، ما أورده يحيى حسن عمر، بشأن اختلاف مضمون ما جاء في بعض كتابات الأستاذ هيكل التاريخية، الصادرة باللغتين العربية والإنجليزية، وذلك وفقاً لما يريد توجيه ذهن القاريء العربي أو الأجنبي له، أو ما يريد إغفال ذهن أي منهما عنه، وقد أنهى الباحث دراسته الهامة بعدة ملاحق، ضمت فهرس مقالات الأستاذ هيكل قبل مرحلة الأهرام، وفهرس كتبه الـ56 مصنفة وفقاً لعهود إصدارها، بداية بعهد الملك فاروق “كتاب واحد”، وانتهاءً بعهد حكم المجلس العسكري “3 كتب”، ومروراً بعهود الرؤساء جمال عبد الناصر “7 كتب” وأنور السادات “11 كتاباً” وحسني مبارك “34 كتاباً”، وكتب هيكل الصادرة باللغة الإنجليزية “8 كتب”.

كما ضمت ملاحق الكتاب الوثيقة، ملحقاً اختصه الباحث بتقييم ملحق كتاب الأستاذ هيكل “بين الصحافة والسياسة” الصادر عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع عام 1984 ومدى توثيقه، حيث يشير يحيى حسن عمر، إلى أن ملحق الكتاب يضم ثلاثين وثيقة، منها 6 وثائق فقط لا غير يقر الباحث بأهمية إدراجها، بنسبة 20% من مجموع وثائق الكتاب، وفي المقابل يرى أن الملحق يضم 6 وثائق سلبية، بمعنى أن بها ما يؤخذ على هيكل نفسه أو المنظومة التي يدور في فلكها مثل دائرة الحكم أو مؤسسة الأهرام، وقد أدرج الباحث في النهاية، قائمة مصادر ومراجع البحث العربية والأجنبية، وسواء كانت منشورة أو غير منشورة.

وضع المفكر العملاق عباس محمود العقاد دستوراً للقراءة خلاصته: “أن كتاباً تقرؤه ثلاث مرات أنفع من ثلاثة كتب تقرأ كلاً منها مرة واحدة”.. ولعل كتاب الباحث يحيى حسن عمر، مما يستحق القراءة أكثر من مرة، كما أن بالقطع تراث الأستاذ هيكل يستحق القراءة هو الآخر أكثر من مرة، وقراءة الأستاذ هيكل من جديد، واجبة الآن في ضوء ما انتهت إليه هذه الدراسة العلمية الموثقة “كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية”، والتي تستحق المزيد من الاهتمام والمراجعة، كما يليق بالكتاب المزيد من الأنشطة التسويقية، ندوات أو حفلات توقيع أو إهداءات للباحثين والكتاب المتخصصين، وهو ما نوصي به الناشر دار العربي للنشر والتوزيع.

نرشح لك: حسين عثمان يكتب: زمن الكتاب المسموع

شاهد: يوم #مش_عادي في ضيافة الإعلامية سالي عبد السلام