دكتور يسري عبد الله يكتب: إبراهيم عبد المجيد والفضاءات المتجددة

يمثل إبراهيم عبدالمجيد معنى فريدا في السرد المصري والعربي، ويعد مشروعه الروائي ابنا للتجدد المستمر، وإذا كانت الإسكندرية قد مثلت مركزا للسرد في أعمال إبداعية عديدة له، وجوهرا للحكاية داخلها، إلا أنه كان يحفر دوما في أمكنة مختلفة، وسياقات متعددة، فالكتابة لديه ابنة التراكم، والفن، والتنوع الخلاق.

-1-

تتعدد الفضاءات المكانية في أعمال الكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد، وتتخذ أشكالاً متعددة، فمن الإسكندرية وجهته الأثيرة في روايات “لا أحد ينام في الإسكندرية”، و”طيور العنبر”، و” الإسكندرية في غيمة”، إلى إحدى بلاد النفط في “البلدة الأخرى”، إلى الفضاء الافتراضي الجديد في “في كل أسبوع يوم جمعة”، إلى ميدان التحرير، وأسطرة الواقع في “قطط العام الفائت”.

ويعد إبراهيم عبد المجيد مسكوناً بالإسكندرية، مشغولاً بها، لا بوصفها مكاناً مادياً متعيناً فحسب، ولا حتى بوصفها مزيجاً بشرياً خلاقاً ومختلفاً، ولكن بوصفها شاهداً على تحولات الحياة المصرية ذاتها، فمن رحابة المدينة الكوزموبوليتانية التي رأيناها في روايته «لا أحد ينام في الإسكندرية»، إلى مصريتها الخالصة في «طيور العنبر»، وصولاً إلى ضيقها الروحي والنفسي في روايته «الإسكندرية في غيمة»، والتي تكشف سنوات الموات البطيء للمدينة التي تقاوم ولم تزل سموم الرجعية ورياحها التعيسة، فتبدو الإسكندرية حاضرة دوماً بقلقها، وصخبها، وشجوها الذي لا ينتهي، والأهم إنسانيتها التي لا تنفد، والتي تقاوم المد الإخواني المتغلغل في بنية المكان منذ السبعينيات وحتى الآن.

يعي إبراهيم عبدالمجيد جيداً خصوصية المكان السكندري، ويدرك كنهه، ويعرف تحولاته، ومن ورائه يستجلي تحولات الواقع المصري في سنوات السبعينيات، حيث الانفتاح الاقتصادي وانتفاضة الخبز والصلح مع العدو الإسرائيلي، في نص يبدأه من نقطة زمنية محددة «النصف الثاني من العام 1975»، ويصدره بمقطوعة لكفافيس الشاعر السكندري الشهير، ينهيها بوداع حبيبته الإسكندرية: «ودعها/ ودع الإسكندرية/ الإسكندرية التي تضيع منك/ إلى الأبد». ومثـلما بدا التصدير دالاً ومعبراً وواضعاً المتلقي أمام جوهر النص «الإسـكنـدرية التي تتـبدل»، والـتي تـقـف على حـافة ضـيـاع أبدي بفعل المرتزقة الجدد من ناهبي القوت والمتاجرين بالدين، من أذناب السياسة الأميركية في المنطقة، والمتحالفين معها.

يقرّب الكاتب عالم السبعينيات أكثر إلى متلقيه منذ المفتتح، فيتناص مع مقاطع من أخبار صحافية مختلفة تصبح شاهداً على الزمن السبعيني بامتياز، فتتوازى ومن ثم أحداث متعددة في استهلال سردي دال وعميق، يُدخل المتلقي إلى أجواء الرواية مباشرة.

-2-

في روايته “قطط العام الفائت”، يضع الروائي إبراهيم عبد المجيد قدماً في المتخيل، وأخرى في الواقع، يخلق جدلاً رهيفاً بين الفنتازيا والحقيقة، يظهر منذ التقديمة الدرامية للرواية وحتى الختام.

ثمة افتتاحية دالة تبدأ بها الرواية، حيث تحيل إلى فضاء تخيلي، يختلط فيه الحلم بالواقع، تبدو فيها “لاوند” المدينة المتخيلة فضاء فانتازيا بامتياز، يتكئ على فضاء واقعي تبدو الإحالات إليه رمزية، اسمه “مصرايم”، التي قامت فيها ثورة في العام 2011، وخلع فيها الحاكم، فتبدو “لاوند” تنويعة على “مصرايم”، ودفعا بالدلالة السردية إلى حيز البناء الأليجوري، الذي يغاير الأبنية الرمزية التقليدية، حيث ثمة توازٍ ما بين الخيال والواقع هنا، ما بين ثورة لاوند/ مصرايم، والثورة المصرية في يناير 2011، ويبدو التصدير الدال للنص كشفا أصيلا عن هذا المعنى: “في بلد يسمى “لاوند” قامت ثورة قي اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في ” مصرايم”.. هنا ما جرى في ” لاوند”، وأي تشابه مع الواقع غير مقصود”.

ينحاز إبراهيم عبد المجيد إلى الفانتازيا منذ الاستهلال الروائي، فيخلق لنصه منطقه الجمالي الخاص: “ابتسم الحاكم في دهشة وهو يرى أن أصابعه تمتد إلى الأمام، راح ينظر إليها وهو يقف في صالة قصره، وقد اتسعت عيناه. قال لنفسه إنه خيال، أصابعي في مكانها. لكنه وجدها تمتد وتطول وتنزل إلى الأرض. راحت تمشي أمامه إلى كل أر جاء الصالة، وتصعد المقاعد التاريخية التي تركها الملوك القدامى للسلطة الجديدة التي انقلبت عليهم منذ عشرات السنين”.

ولا يكتفي الكاتب بموازاة الواقع رمزياً عبر هذا البناء الأليجوري، ولكنه أيضاً يؤسطر الواقع، وتبدو هذه الموازاة الرمزية بدءاً من أسماء الشخوص “اللواء سامح أبو عامود مسئول الإعلام في وزارة الأمن والأمان- الحاكم أمير باشا أبو العساكر- السر عسكر- جماعة النصيحة والهدى- الشيخ شمعدان- هديل/ سعاد حسني”.

وتبدو أسطرة الواقع عبر تجمد الثوار في أماكنهم في الميدان، ثم مرور هديل/ سعاد حسني لتلثم شفاه كل شاب وفتاة، فتدب الحياة في المجموع، ثم تصعد من جديد عبر أسطورة الحصان المجنح “أبيجاسوس”، وتبدو الإحالة إلى سعاد حسني حاملة طابعاً رمزياً شفيفاً، فتداعب الوجدان العام الذي ألِف بطلته الجميلة “الفنانة المصرية الراحلة سعاد حسني”، وهي تنشر الفن والمحبة والغناء، هذه الفتاة الشقية المغوية التي باتت قريبة طول الوقت من المصريين. كما يتحول الحاكم نفسه إلى فكرة طوطمية قديمة وفاشية “الآن لا يصدق هذه الحكاية. لماذا يصدقها وقد ظهرت معجزاته. يصدق أن جده هو القنطروس الأسطوري. سيطلب من وزير الأمن والأمان (مَم) أن يأتي إليه بكل من يحمل اسم قنطروس من غير عائلته. سيتحقق له أن لا أحد يحمل هذا الاسم إلا هو وأفراد عائلته الذين رحل أغلبهم وأمر الباقين بالاختفاء بناء على تعليمات زوجته. هو المقدس القديم بين هذا الشعب وهو صانع المعجزات”.

يوظف الكاتب في مقاطعه السردية آليات الفنون البصرية المختلفة، وتحديداً فن السينما، وتقنيات كتابة السيناريو، حيث يمكننا قراءة مقاطع سردية كاملة مع إمكانية تخيلها بصرياً تخيلاً ضافياً: “مد لها الحصان جناحه فصعدت عليه واستوت على ظهره، وارتفع بها، وإذا بسحابة بيضاء تهبط مسرعة إليهما تلفهما وترتفع أكثر، بينما صيحات الدهشة وعدم التصديق لما يحدث وإذا بالسحابة بعد أن ترتفع إلى مسافات بعيدة والعيون معلقة بها حتى كادت أن تختفي تظهر منها آلاف الطيور البيضاء قادمة بسرعة ناحية الأرض فأصاب الكثير الهلع كما أصاب الكثير الدهشة”.

تتعدد مستويات الأداء اللغوي في السرد، فمن اللغة الكلاسية السامقة والرهيفة التي يستخدمها السارد الرئيس في مقاطعه ذات الطابع الإخباري/ الوصفي: “شمس حانية تشرق على بلاد اللاوند. شمس تعلن أن هذه البلاد جميلة وسط الدنيا. ترفع الأنظار إلى بهاء الفضاء على البحر وحول النهر وفي الشوارع البعيدة والأزقة في العشوائيات”. (ص 358)، مروراً باللغة المحايدة، ثم اللغة التي تقترب من فصحى المثقفين، وصولاً إلى العامية المتناثرة في الحوارات في بعض مناطق السرد، كما تمثل الحوارات بين الشخوص جزءاً مركزياً من بنية الرواية، حيث تضيف إلى الرؤية السردية وتتممها، فالحوارات بين السلطة في “لاوند” وأركانها تبدو كاشفة عن ذهنية القمع والاستعلاء، كما أن الحوارات الدائرة بين ممثلي الثورة من الشباب (أحمد خشبة/ مصطفى/ نزار/ شهيرة/ نورهان/..)، تبدو محملة بشحنات عاطفية وانفعالية، وكاشفة عن وعي الشخوص بحتمية الخلاص عبر الثورة.

يعتمد البناء الأليجوري هنا أيضاً على تلك التقسيمات الدالة للواقع، وموازاتها رمزياً ودلالياً، ففي”لاوند” توجد جماعة النصيحة والهدى، ومرشدها البائس الشيخ شمعدان، ويوجد أمير باشا أبوالعساكر، وغيرهم.

وفي إطار اللعبة الفنية التي يخلقها إبراهيم عبدالمجيد في نصه، نراه يمعن في إيهام المتلقين بتلك المباعدة الفنية بين النص والواقع، ويتدخل المؤلف الضمني للتعليق على الحدث الروائي، مستخدماً آلية التعليق السردي: “والآن بعد أربع سنوات وأنا أكتب هذه الرواية استطعت الرجوع إلى تعليقاتهم وأخذت بعضها هنا، سألت فتاة منهم هل يمكن لي أن أن أستخدم تعليقها في روايتي. اندهشت جداً. ذلك أمر قديم ووقتها نقلته فضائيات عربية وأجنبية في متابعتها لما يجري في البلاد. سالتني هل تستخدم شيئاً قديماً سبق استخدامه؟ ثم قالت: لا أظن أنه مفيد.. سألت شاباً آخر فقال تقريباً نفس الكلام. بدا لي كلاهما حريصاً على أن لا أقول شيئاً معاداً. لكني رغم ذلك أستخدم تعليقاتهم الآن، وسأستخدم تعليقاتهم وتعليقات غيرهم فيما بعد. ولأني لم أحصل على موافقة أحد قمت بإهمال الصورة والاسم، وإذا أعطاني الله العمر والصحة وأنهيت الرواية ثم نشرتها، فإنني أحتفظ لهما بحقوق الملكية الفكرية لتعليقاتهما، وأعد الجميع أن أعطي كل من يقابلني منهم نسخة من الرواية”.
وإذا كان المتكلم عينة أيديولوجية بتوصيف ميخائيل باختين، فإن لغات الشخوص في النص تبدو دالة على وعي أصحابها، ولعل نموذج أحمد خشبة يعد تعبيراً دقيقاً عن هذا التصور.

تنهض رواية “قطط العام الفائت” على آلية الإحالة أيضاً، وتتخذ الإحالة هنا مسارين أساسيين: أحدهما عام، حيث الإشارة إلى السياق السياسي والثقافي الذي يشكل الزمن المرجع للرواية، ويبدو واضحاً عبر عشرات الجمل والحوارات السردية داخل النص.

أما المنحى الثاني فيتأسس على دلالة خارج الواقع، يظهر مثلاً عند الإشارة إلى الحصان المجنح، الذي يحيل إلى أسطورة “أبيجاسوس”، الحصان الأسطوري المجنح في الميثولوجيا الأغريقية، والذي تروي الأسطورة أنه ما إن ولد حتى طار إلى السماء.

وبعد.. يختار إبراهيم عبد المجيد لحظته الروائية ببراعة، ويتخذ من القطط الحاضرة في الثقافة الفرعونية الخالدة بقدسية شديدة، والراسخة في الوجدان الشعبي المصري بوصفها بسبعة أرواح، معادلاً موضوعياً للشباب الثائر، الذي يتحول إلى قطط، بعد أن يعيد الحاكم عقارب الزمن سنة إلى الوراء، ويخوض دراما الثورة مع الآلة الجهنمية للقمع، وكأن الثورة لن تموت، قوتها في نبلها، هكذا يقدم إبراهيم عبدالمجيد نصه المراوغ “قطط العام الفائت”، المسكون بالمتعة الجمالية، والحيل الفنية الماكرة، بدءاً من عنوانه المخاتل، ومروراً بعلاقات شخوصه المختلفين، ووصولاً إلى بنيته الفنية المازجة بين السياسي والجمالي، الواقعي والفانتازي في بنية سردية متناغمة ومتجانسة في آن.

إبراهيم عبد المجيد.. ملف خاص