سناء جميل.. "سيدة الضوء"

نقلًا عن المصري اليوم

طارق الشناوي

قبل رحيلها بأيام قليلة زرتها فى المستشفى، وبعد أن قبلتها فى جبينها ويديها قالت لى: «انت ابنى.. خاللى أمك تدعيلى»، ولم تكن أمى فى حاجة لأن أذكرها بسناء، فلقد كانت تدعو لها دائما، وبعد رحيلها ومع كل صلاة واصلت الدعاء بالرحمة والمغفرة، أمى بفطرتها كانت مؤمنة بأن الجنة للأتقياء من كل الأديان.

سناء جميل كانت تضع أسلاكا حولها فلا تستطيع الصحافة الاقتراب، أنا واحد بين عدد محدود جدا مسموح لهم بالاقتراب من سيدة الهمس الفنى، تلك الدائرة لا يدخلها إلا الموعودون، أتاحت لى أن أتأمل هذا النبع الصافى، الذى قد يراه البعض وللوهلة الأولى بركانا متفجرا، بينما هى فى الحقيقة أقرب لمشاعر الطفل، الذى لم يتحرر بعد من الارتباط بأبويه، سناء جميل تخشى الغرباء، يجرحها التكلف فى وجود الآخر، مهما كانت المساحة الزمنية التى يشغلها الآخر، فهى تعنى بالنسبة لها اغتصابا لأهم شىء تملكه فى الحياة، وهو الخصوصية.

أتصورها دائما فى حالة شحن فنى، فإذا كانت أدوات التعبير المباشرة فى عالم التمثيل الحركة والصوت، فإن سناء كانت تملك أمضى سلاح وهو الضوء، فلم تكن تنطق الحوار، ولكنها تبث هذا الوميض السحرى فيسكن وجداننا.

عدد محدود جداً من المبدعين ينطبق عليهم تعبير شعراء التمثيل.. على رأس هذه المدرسة، والتى تشغل مقعد الناظر، سناء جميل، تتحول الشخصية التى تؤديها إلى نبضات فى عروقها ودقات فى قلبها، فهى تتجلى مع كل شخصية تؤديها، التجلى هو أعلى مراتب الروحانية.

نرشح لك: طارق الشناوي يكتب: بلبوص!!

سناء زعيمة التحليق الفنى، تبرع فى أدوارها القليلة بمقياس العدد، العميقة بالإحساس والتأثير، حاصرتها السينما المصرية، بقواعدها التى توارثناها وهى الإغراء والجمال الصارخ، وحاصرها المسرح بقواعده التى تعلى من شأن الأداء الصارخ الجهورى، وما أسهل أن تكون زاعقا، لكنها كانت ستصبح أحدا آخر غير سناء جميل، لا يمكن فى العادة لفنان أن يفرض قانونه على الحياة الفنية، بينما سناء قررت أن تُصبح سناء لا أحد آخر.

رآها «د. طه حسين» عميد الأدب العربى بإحساسه وتواصل معها، وعندما شاهدها على المسرح قال كلمته الشهيرة: «ليس لأحد على تمثيلها سبيل»، تلك الكلمات تنفذ بالضبط إلى تحليل سيدة الضوء فى الفن المصرى، فهى مدرسة خاصة ليست صدى لمن سبقنها، ومن المستحيل أن يلتحق أحد ممن أتين بعدها بهذه المدرسة، فهى غير قابلة للتكرار أو التقليد.

قدمت العديد من الشخصيات التى منحتها لحما ودما ومشاعر، (نفيسة) العانس فى (بداية ونهاية)، وأيضا (حفيظة)، والزوجة الأولى للعمدة صلاح منصور التى تتجرع مرارة الهزيمة فى (الزوجة الثانية)، إنها الأشهر فى مشوارها، ولكن الأعمق بالنسبة لى هى (فضة المعداوى) فى (الراية البيضاء).

أتذكر أننى سألت مؤلف المسلسل الكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة، الذى قدم عشرات من الشخصيات الدرامية التى سكنت وجداننا، سألته عن «فضة» وكيف رأى تجسيد سناء جميل لها؟ أجابنى: رغم كل ما كتبته طوال مشوارى، فأنا أعتبرها الأكثر اقتراباً منى، منحتها سناء جميل صدقا وحياة على الشاشة، تجاوزت حتى خيالى على الورق، وكأن سناء جميل هى فضة وأنا كنت أحاول رسم ملامحها على الورق!!

أمس كانت الذكرى الثالثة لأمى، وبعد أيام تأتى الذكرى السادسة عشرة لأمى الثانية!.

طارق الشناوي يكتب: في حب عبد الغني السيد

شاهد: كيف سيختلف معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 50؟