سامح سامي يكتب: الفوتوغرافيا.. ووهم الحياد

الفوتوغرافيا هي السلاح المثالي للوعي، وفي طبعه المحب للتملك. عبر تحولات زمنية كثيرة أصبح التصوير الفوتوغرافي ممارسة ومتعة، مثل الجنس والرقص، الأمر الذي يعني، أن التصوير الفوتوغرافي- حسب سوزان سونتاج- مثل أي شكل للفن الجماعي، لم يمارس من قبل الناس كفن. فهو، بالدرجة الأولى، طقس اجتماعي، وحصانة ضد القلق، وأداة للقوة (*).

لذلك يثار سؤال يبدو محسوما من الوهلة الأولى هل الصورة توثيق وطقس اجتماعي أم فن؟

علماء الاجتماع يقولون إن على المرء الإدراك دائما أن الشيء لا يعد “فنا” إلا لأن مجموعة من الأشخاص أو الجماعات ذات النفوذ قد عرفته على أنه كذلك. إذا كان الفن صفة يسبغها أشخاص معينون على أشياء بعينها، فمن أين تتأتى هذه الصفة؟ يصر علماء الاجتماع على أن مصطلح “فن”، والألفاظ المرادفة له ليست سوى اختراعات تاريخية، ظهرت في الغرب أولا منذ بضع مئات السنين. وقبل ذلك الوقت، لم يوجد مصطلح “فن” بالمعنى المعاصر. عوضا عن ذلك، كان الناس في القرون الوسطى ينتجون أشياء ثقافية للاستخدام بطرق معينة مثل الإيقونات الدينية(**).

وما فعله الأب “استفان دي مونجلوفييه” الذي جاء إلى مصر خادما في كنيسة  قرية “جراجوس” بقنا عام 1946، وتجربته التي وثقها الأب وليم سيدهم اليسوعي في كتابه ” جراجوس – قصة 21 عاماً للآباء اليسوعيين”، من الممكن أن نفهم منها ما يقصده علماء الاجتماع عن “الفن”، وما قالته كثيرا سونتاج حول الفن والجمال، إذ ترى أن المصور هدفه إلتقاط الجمال، وهو يصور القبح، يقصد تصوير الجمال في ذلك القبح.

الراهب “مونجلوفييه” كان محبا وعاشقا لفن التصوير الضوئي، وتوثيق كل ما يراه في تلك الفترة منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، ذلك التوثيق الذي أصبح ما نتج عنه فنا جميلا، نراه خلال كتاب الأب وليم سيدهم. في  ذلك الكتاب نكتشف ثلاثة أمور: الوثائق الفوتوغرافية النادرة لصعيد مصر وأهلها، الأمر الثاني تأثير هذا الراهب على طفل صغير يصبح فيما الأب وليم سيدهم الراهب اليسوعي، ومن ثم هو الآخر راهب يهتم بالصورة، ويدعم كل الأنشطة الخاصة بالصورة وثقافتها، الثالث أن الراهب البلجيكي “دي مونجلوفييه”، وهو يمارس التصوير الفوتوغرافي لأهل القرية لم ينس حلمه بقرية نموذجية في أعماق صعيد مصر، لذلك أسس خزانا لمياه الشرب النقية ليستفيد منه أهالي القرية، وأشترى “وابور” لري الأراضي بشكل منتظم، وأسس ورشة لصنع الفخار والخزف أستفاد منه أهالي القرية حتى الآن.

والدكتور بدر الدين مصطفى يسأل أيضا في دراسة له تنشر في هذا العدد “هل يمكن النظر إلى الفوتوغرافيا بوصفها صورة محايدة عن الواقع؟ من المؤكد أن تأتي إجابة بودريار عن هذا السؤال بالنفي القاطع، فالصورة، أيا كانت إدعائها بالحياد، مزيفة في جوهرها ولا يمكن التأكد من صحتها؛ لأنها غدت منتمية إلى واقع آخر غير الذي حدثت فيه. إن وهم الحياد هو الوهم الذي تبناه المشروع الحداثي الغربي اعتمادا على رؤيته للعالم وفقا لفلسفة النيوتونية والتي جاءت الفوتوغرافيا تتويجا لها. بهذا المعنى يحاول آلان سيكولا  Allan Sekulaدحض الفكرة القائلة بموضوعية الصورة الفوتوغرافية وحيادها وهو التصور الحداثي الشائع عن الفوتوغرافيا. ومن منطلق مشابه لسيكولا ينتقد جويل سنايدر Joel Snyder المبادئ التي وضعتها الحداثة للتصوير الفوتوغرافي بوصفها شروطا ينبغي على المصور الالتزام بها بغية إنجاز فوتوغرافيا صادقة”.

وردا على سؤال د. بدر الدين مصطفى يؤكد أندريه بازان أن جمال الصورة في تقديم الواقع وإظهاره، وليس بما تضيفه وإنما ما تكشفه.

نرشح لك: كاتب كويتي يرد على صفاء الهاشم

(2)

كيف ترى الفوتوغرافيا.. هل هى توثيق للواقع أم أسر له؟ سؤال من حسن شعراوي وعزة إبراهيم ضمن حوار مع الفنان عادل وسيلي، يجيب بشكل عملي على أسئلة المقالات التنظيرية السابقة، قال:”لابد أن تحدد: هل هو توثيق للواقع كما هو أم من وجهة نظرك؟ هو صورة من صور التوثيق لشكل من أشكال الواقع، وليس شرطا أن يكون الواقع الحي، لكن أنا كمصور كيف أرى الواقع؟ فالكاميرا ما هي إلا أداة لكن الواقع أراه بوجهة نظري كمصور.

بعد الثورة أصبح التصوير عادي. لكنه الآن غير ذلك أصبح معناه أنت تصور إذن أنت جاسوس، وللأسف هذه النظرة مستمرة، الآن عندما أخرج بالكاميرا أجد المواطنين الشرفاء الذين لا أعرف عما يدافعون وأجد البوليس، لازالت الثقافة العامة لا تفهم أنك حر تصور من غير ما تمتهن مهنة معينة، بمعنى أنه من حقك تهوى التصوير وتمارسه.

(3)

مجلة الفيلم تنشغل بـ”فن الصورة” باعتبارها مظلة ومدخلا للسينما وتذوقها وصناعتها أيضا، لذلك منذ العدد الأول تهتم المجلة بشقي السينما والفوتوغرافيا. وهذا العدد السادس عشر هو الجزء الثاني والمكمل من العدد التاسع الذي تم تخصيصه بالكامل عن الفوتوغرافيا التي ربما تبقى في الذاكرة أكثر من الصور المتحركة؛ لأنها شريحة منتظمة من الزمن، وليست فيضا كما قالت سونتاج. يكتب معنا في هذا العدد، لأول مرة، الدكتور عماد أبو غازي الأكاديمي ووزير الثقافة الأسبق عن أرشيف صور عائلي، نكتشف فيه جزءا من تاريخ الثقافة المصرية، عبر صور مختار المثال الشهير، وكذلك موضوع الزميلة إيمان علي عن أرشيف الأدباء، والبداية مع صور الكاتب الكبير علاء الديب، ورحمة الحداد عن المصور “إدوارد مايبريدج”، الذي يعتبره البعض صاحب الفضل في وجود السينما، والطريف أنه حدث ذلك بعد إصابته في الدماغ، جعلته أجرأ وأسرع وأكثر هوسا بالكمال، وبيتر مجدي عن تصوير الأفراح، وكريم عبد الخالق وموضوعه عن آندي وارهول المتمرد صانع الصورة، ود.أمنية عامر الذي كتبت عن الأرشيف والسينما وعادل موسى وموضوعه النوبة في عين “آنا هوهينفارت”، ورنا ناصر عن الفوتوخانة، وبسمة خالد عن حكايات من  مكتبة الكتب النادرة، وغيرهم، كما يضم العدد أيضا عدة موضوعات منها:”علاقة الفوتوغرافيا بنشأة السينما المصرية وتطورها” لعلا سيف، “ﺣﻜﺎﻳﺎﺕ ﻣﺼﻮﺭ ﻛﻔﻴﻒ..ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﺎﻣﻴﺮﺍ ﻳﺒﺪﺃ ﺑﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ” ﻷﻣﺎﻧﻲ ﺻﺎﻟﺢ، فضلا عن عدة حوارات مهمة مع المصور الكبير محمد بكر وﺣﻜﺎﻳﺎﺕ عن والده المصور الشهير ﺣﺴﻴﻦ ﺑﻜﺮ، ومع المخرج علي الغزولي، ومع هشام فاروق إبراهيم الذي يتذكر والده المصور الكبير “فاروق إبراهيم”  ملك الكاميرا كما يقال عنه.

 (4)

هناك فراغ في المكتبة العربية، وكذلك في الصحافة، من كتابة متخصصة في الفوتوغرافيا، وفي نقد الصورة، لذلك مجلة الفيلم، التي تقف، وإلى جوارها زخم ضخم من التجارب التعليمية البديلة في السينما، تطمح لتأسيس “مدرسة الفيلم”، كبرنامج تدريبي لنا وللآخرين من خارج هيئة تحرير المجلة، حتى تكون تلك المدرسة مُنطَلقًا لعودة التكوين الثقافي الذي يسبق الكتابة، ذلك التكوين الذي كانت تعرفه الصحافة المصرية قديما كأساس لتطوير الصحفي عبر التدريب المستمر، ويطمح مخططو المدرسة أن يشمل برنامجها صناعة أفلام بالتوازي مع حرفية الكتابة في السينما وفن الصورة. وأعرف أن المدرسة الجزويتية الجديدة تضع في طموحها أن تتحول هي ومعها مجلة الفيلم، إلى تجربة تحققت في تاريخ السينما العالمية، وأقصد هنا “مجلة السينما” لجان لوك جودار و“كراسات السينما” لأندريه بازان، لكي تكون محاولة أولى لخلق تيار سينمائي متخصص لا يقترب فيه من النقد السينمائي إلا الدارس لفن السينما، وعلى الأقل يمكن تطبيق ذلك في مجلة الفيلم، حتى نتجنب الخفة والاستسهال الذي صبغ حياتنا الصحفية الفنية، وأصبحت السينما الحائط المائل لكل من يريد الظهور. وأقول هذا ليّ ولكل هيئة تحرير مجلة الفيلم قبل أن أقوله للأخرين، نحن نريد التعلم والتدريب المستمر والتطوير الذي لا يتوقف.

ولم تقف مجلة الفيلم عند هذا الحد، إذ جاءت تعليقات كثيرة، أن المجلة مالت أكثر إلى الأشكال الصحفية تاركة الجانب الأكاديمي البحثي، ورغم أن المجلة هي مطبوعة صحفية إلا أنها تلعب دورا – أو تريد ذلك- في الثقافة السينمائية، التي تمهد لصناعة سينمائية مصرية، وفي ثقل البحث السينمائي، لذلك تستعين المجلة بنخبة من الأكاديميين والباحثين، الذين يكتبون بشكل غير ممل كعادة الأبحاث الأكاديمية المصرية. وتخطط المجلة منذ فترة إلى تأسيس وحدة بحثية، تضم عدة أكاديميين، تنشر تلك الوحدة أبحاثا محكمة عن موضوع كل عدد قادم، على أن تبدأ اللجنة عملها قبل العمل الصحفي الذي لا يحتاج إلى وقت طويل كالأبحاث، فضلا عن تأسيس وحدة أخرى “فيملوجرافيا السينما المصرية” تحت إشراف الدكتور ضياء مرعي صاحب الدراسة الأهم عن تاريخ السينما التسجيلية. تلك الدراسة التي ستنشر على 16 جزءا ضمن كتاب مجلة الفيلم.

(5)

قال برجسون إن “السينما وهم؛ لأنها تقدم لنا حركة كاذبة”. لكنه لم يعش هذا الزمن القبيح ليعرف أن السينما، والصورة أيضا، هما الحركة الصادقة في عالمنا، رغم ما تمارسه السلطات من تعتيم للحقيقة، وشيوع وهم الحياد وفخ الموضوعية الملتف من جميع الجهات بعصر الصورة وطغيان التكنولوجيا.

(*)- حول الفوتوغراف، سوزان سونتاج، ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، 2013

(**)- سوسيولوجيا الفن طرق الرؤية، تحرير ديفيد إنجليز وجون هغسون، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة الكويت، يوليو 2007

جيهان الجوهري تكتب: ما تعلاش عن الحاجب.. ليس عن المُنتقبات

شاهد: كيف سيختلف معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 50؟