محمد متولي.. "بطاطا" الذي نضج على نار هادئة

محمد حسن الصيفي

رجل في أواخر الستينات، يجلس على مقعدٍ أنيق في مواجهة الكاميرا، مرتديًا معطفًا من اللون الأحمر اللافت، يغلب شعره البياض، يتحدث بعينين لامعتين، وبكلمات مسترسلة الواحدة تلك الأخرى بحماس منقطع النظير، عيناه اللامعتان تسبقانه في الإشارة والتعبير عن الشغف، طفل كبير لا يشيب، “معفرت”، معجون بالفن والتمثيل، يتحدث عن الأدوار وكأنه ممسوس، أو قادم من عالم الأحلام، محب للدراما والسينما بجنون، علاقة عشق معقدة من الصعب أن تفصله عنها، أو حتى تفقده شغف الحديث والإشارة إليها طوال الوقت.

رجل في خريف العمر يتذكر المرحلة الثانوية بتفاصيلها الدقيقة، يتذكر الأدوار التي قام بها على خشبة المسرح المدرسي، يحفظ أسماء الأدوار التي لعبها وكأنه يحفظ نصًا مقدسًا، كأنه يتلو مقدمة الإلياذة الشهيرة.

نرشح لك: صورة: وصية حسن عابدين قبل وفاته

محمد متولي مواليد المنوفيّة 1945، إسكندراني الهوى، عذب الكلام، محترف التمثيل، “الذي بدأ دراسته بمعهد الفنون المسرحية وهو في الفرقة الثالثة من كلية دار العلوم”.

يذكرك متولي بأبيات صلاح جاهين الشهيرة “أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام..”، تشعر أنه يعيش الحياة وكأنها فيلمُ روائيُ طويل، يعيش التمثيل على هامش الحياة، نفس التدفق والجنون، على الشاشة يبتسم ثم يضحك، يذكر واقعة طريفة فيتوقف ليرويها، يسهب في شرح دوره في فيلم أو مسلسل مر عليه ربع قرن أو أكثر وكأنه حدث فقط بالأمس!.

محمد متولي الذي توفى مطلع عام 2018، أحد أكثر الرجال صعوبة في الكتابة عنه، إنتاج غزير، مُتقن، وكأنه جاء وفق سيناريو مُعد مسبقًا، أداه بجدارة ثم رحل بهدوء على عكس أدواره الصاخبة، قام بكل شيء يستطيع أن يفعله رجل بارع وهب كامل أوقاته للإبداع والفن.

متجدد، ففي كل حقبة له نفس الحضور والبريق والقدرة والإفيهات التي لا ينساها الجمهور، و”متولي” الذي اشتهر بالأدوار الكوميدية الصارخة مثل “الحاج إسماعيل” في “مطب صناعي”، ربما لا تصدق أنه هو نفسه “خوليو” الشهم المتفاني في صداقته في “سلام يا صاحبي” أو “خميس” الكئيب الحزين المضطرب في “زيزينيا”.

رجل ضليع بالطريقة نفسها التي تشعرك أنه يذهب للكاميرا في نزهة لطيفة ثم يعود بعدها لمنزله يحتسي قهوته ويجلس رفقة بناته وزوجته!، ربما يؤيد تلك الفكرة روايته لإسعاد يونس أنه أدى مشهدًا واحدًا في فيلم “ليلة ساخنة” بعد أن استدعاه عاطف الطيّب، قرأ المشهد أثناء وقوفه على الرصيف في الشارع، وأداه في تلك الليلة ثم عاد إلى البيت!.

يسأله سمير صبري في إحدى اللقاءات.. لقد قمت بأدوار الكوميدي والتراجيدي على السواء فأيهما تفضل؟!، وإمعانًا في الصدق يغلف إجابته بالقسم أنه يحب الاثنين بنفس الدرجة، ويضيف أنه قام مؤخرًا بدورين جديدين ينتميان لمنطقة Psycho tragic comics، في “الركين” و”هانم بنت باشا”، في إطار الشخص الغير طبيعي الذي يتأرجح بين التراجيديا والكوميديا في آن واحد.

“متولي” أحد رجال أسامة أنور عكاشة المخلصين، في الشهد والدموع قام بدور “حجازي”؛ يضحك “متولي” ويقول عنها: “شخصيّة حجازي واطية واطية يعني”، مشيرًا لطبيعة الرجل الذي يتمتع بالانتهازية والخيانة لأبعد حد.

أما “مصطفى بطاطا” في “أرابيسك” فهي الشخصية التي تتوقف عندها، محامي فقير ومغمور يرتدي ألوان فجة وغريبة، طيب لكنه عصبي وساخر بطريقة لاذعة وجادة وبكثير من الحدة، تنتنظّر المشاهد التي تجمعه بـ “حسن أرابيسك” لكي تشاهد مباراة في السخرية لا ينقصها نكهة من نكهات الكوميديا عالية الجودة.

ولم يكن هذا الثنائي المنسجم يقوم بهذا العزف البديع للمرة الأولى، بل سبقه إبداع ونجاح منقطع النظير بين صلاح السعدني ومحمد متولي في ليالي الحلمية، عن طريق “بسة والعمدة”.

لكن اللافت أن “متولي” كان متجددًا على الرغم من قيامه بنفس الأدوار عدة مرات، مثل دور المحامي في “أرابيسك” و”الراية البيضا”، ودور الطبيب النفسي في فيلم “تجيبها كده تجيلها كده هي كده” و”فص ملح وداخ” وغيرهم .

وأفلت “متولي” من مُعضلة رجالات عالم “دراما أسامة أنور عكاشة” الذين توقف بهم الحال بعد فترة الثمانينات والتسعينات الثرية، فاستطاع تخطي الحجب الزمني، ربما بالكثير من المرونة والحيوية، وربما لأنه من الأساس لايزال يعيش بتلك الروح الطفولية البسيطة والقلب الكبير، فظل يتنقَل بين الدراما والسينما حتى قبل وقت وفاته بأعوامٍ قليلة، تاركًا خلفه سيرة طيبة، وذاكرة محببة لدى الجمهور، ونجوميّة أقل مما يستحق بكثير.

فـ “متولي” على غرار الكثير من النجوم الذين تقوم على أكتافهم الأعمال الفنية، وبدونهم تفقد مذاقها وقوتها ولكن مع هذا يُشكّل اللبنة التي لا يراها أحد، وبمقياس الشهرة واللقاءات التلفزيونية والصحفية ستجده حصل على أقل بكثير مما يستحق، لكنه يظل صاحب الوجه البشوش والذكاء الشديد والروح الخفيفة المرحة التي يألفها الجميع.

https://youtu.be/K_zDzKbvARc?t=2345

إبراهيم يسري.. حبة في عنقود العظماء