أحمد مدحت سليم يكتب: الأستاذ الأول

1

في الأمتار الأخيرة من رحلتنا المشتركة التي امتدت 37 عامًا. كان خط النهاية يظهر شيئًا فشيئًا بينما تنقشع وتتلاشى الغلالات الضبابية التي كان يصنعها الأمل في حدوث معجزة. انحنيت فوق أذن أستاذي “محمد مدحت مصطفى” لأقول وسط دقات أجهزة العناية المركزة في أخر 2013: “أنت أصل كل جميل.. وسبب كل المعارف يا بابا…”

2

كان عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي يتسللان من غرفتهما في مينا هاوس ليتهربا من سداد مستحقات الأوتيل، وفي الردهة المظلمة فوق السلم امتدت ظلالهما المرتجفة. وقال أبي وهو يشير إلى الشاشة: “بص الضل ده.. المخرج عايز يقول إنهم بيهربوا زي الحرامية!!”، كنت تقريبا في السابعة، وفهمت يومها أن الصورة فن، وأن الفن ليس تجربة عشوائية.

3

ولد أبي قبل النكبة بعام، وحين بلغ نضجه كانت التجربة الناصرية تتربع في قلبه وعقله، وحين جلس في اللجنة لامتحان البكالوريوس بكلية التعدين والبترول بالسويس. عبرت طائرات الصهاينة فوق رؤوسهم فعرف أن كل ما قاله الزعيم كان كذبًا، وعاد للامتحان بعد أشهر من التأجيل، ثم التحق بالجيش الذي يستعد للثأر، وحين أسأله:
– ألم تكن تشعر باليأس؟!
يقول: “قام عبد الحليم وبليغ وجاهين والأبنودي بالواجب..
فأعرف أن الثورة فن، وأنها ليست ابنة الواقع وحساباته!!”

4

عاش الرجل حياة زاهرة تعرض خلالها لعشرات الثقافات والحضارات، ففي مراهقته كانت الثورة في أوج مجدها، وكذلك الأحلام والأقلام، كانت الحياة وقتها قراءة وعلم وعمل، عشرات النجوم تزدهر في سماء الكتابة لترسم للأجيال الصاعدة طريقًا مضيئًا نحو السماء وعشرات العلماء يشيدون مشاريع صناعية واقتصادية. وفي الكلية أثناء دراسته، ثم في مصنع التبين ومصنع الحديد والصلب ومناجم الواحات أثناء عمله، كان الخبراء الروس يزجون أوقات فراغهم الطويل بمباريات كرة القدم مع المهندسين المصريين، أو في تعليمهم اللغة الروسية، والتبشير بالتجربة السوفيتية وفنونها ونجومها، فعرف الرجل الأدب الروسي وانشغل به جنبًا إلى جنب مع دراسة الماجيستير حتى أنه كان يلقي الشعر بالروسية على أساتذته فيصفقون طويلًا، وعاش في موسكو للدراسة فأدرك أن أمام مصر والثورة الكثير والكثير. كان يحكي قصصه الكثيرة فأعرف أن العمل والفن لا يتعارضان، بل إن العمل ذاته فن على نحوٍ ما..

نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: الأستاذ محمود عوض

5

تومض في الذاكرة لمحات لأبي في موقع عمله بمكة في مشروع حفر أنفاق “منى”، أرى الرسومات الهندسية المدهشة، وأرى التراكيب الخراسانية الصارمة، فأعرف أن العلم أيضًا فن، إذا قام به العلماء لا “المشهلاتية”.

6

على مدار الرحلة لم أر أبي إلا قارئًا.. في الصالة، في الصالون، في غرفة النوم، في النادي، في بيت والدته، أو في بيت حماه. لن تراه إلا بصحبة جريدة أو كتاب أو ديوان شعر. وكثيرًا ما استيقظ لأجده قد جلس بالشرفة تحت ظلال بوانسيانا وبجواره أمي تحتسي الشاي وقد أسلمت له أذنها بينما هو يقرأ بصوته المؤثر مقاطع من الشعر أو فصولًا من الفكر أو آيات كريمة من القرآن.

وفي الموعد المحدد كل عام، نعود من المدرسة لنجده قد عاد وأمي من معرض الكتاب محملين بكراتين مهولة تضيف أحمالها إلى مكتبتنا الزاهرة، ولي ولأخوتي من بين ذلك عشرات الكتب الثمينة الفخيمة للأطفال من مختلف الدول. فعرفت روبنسون كروزو وجاليفر وقصائد بوشكين وشوقي للأطفال وعشرات غيرها.
وأفهم أن الأبوة فن، وأنها ليست فعلًا بيولوجيًا.

نرشح لك: فاطمة خير تكتب: أمينة النقاش ونبيل زكي.. شكرا

7

في جوف الليل -كمريض دائم بالأرق- اتقلب فوق الفراش والضجر والسكون المميت، فيصلني صوته وهو يقيم الليل في صالة البيت، تسكن مخاوفي وأنام. هذا الصوت وهذا الهدوء وأشياء أخرى مثل قوة الحجة والثقافة العامة كانوا سببًا حاسمًا يدفع الجميع للاستماع إليه إذا تحدث في المسجد فيفضلونه على الإمام الموكل من الأوقاف.
وأعرف وأنا أرى أعين الناس المعلقة به وبحديثه أن الإيمان فن، وأنه جهاد وثقافة وليس أقوال ملفقة.

8

أول لقاء حقيقي بيني وبين الثقافة بمعناها الواسع كان أثناء تسللي للمكتبة المغلقة ببيتنا. أعثر على قصص قصيرة كثيرة داخل أعداد مجلة العربي التي كان أبي يقتنيها ويدخرها محبة في رئيس تحريرها أحمد بهاء الدين. أعرف يومها أدبًا غير أدب الأطفال الذي كنت أقرأه.

لا أتذكر أن أبي قال لي اقرأ ولكنه كان يمهد الطريق دائمًا. فعرفت أن القيادة فن وأن أسهل طرق القيادة أن يشعر التابع أنه ذو إرادة حرة وقرار.

9

تقاربت وأبي بشكل حقيقي بعد دخولي الجامعة؛ تعرفت على عالمه بشكل أوضح وتعرف هو عليّ، صار لكل منا القدرة على نقد الآخر، فاختلفنا واتفقنا مئات المرات وحول مئات الأشياء، انتقدت نظرة أبي في ترف الحياة إذ كان زاهدًا يهزه الجمال أكثر مما يغريه نجاح صفقة من الصفقات، ويرى الرضا وهناء البال فوق كل شيء، ويرى متعة الطريق أمتع من الوصول. وانتقد هو حبي لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأنيس منصور. كان يرى أن هناك من هو أهم منهم. واتفقنا فقط على محبة فلسفة نزار للحب وللحياة.

وفي طريق عودتنا اليومية من المزرعة الصحراوية، قطع أبي أوراده المسائية فجأة ليقول وهو يشير لقرص الشمس الذي يغوص في الرمال: “شوف حسين السيد بيقول إيه في غنوة افتكرني بتاعة عبد الوهاب.. افتكرني في غروب الشمس والليل بيناديها.. والأماني وهي رايحة وراح نصيب العمر فيها!!”

فأتأمل الغروب وأعرف أن كلمة صادقة ستهز قلوب ملايين البشر على مر العقود. كما أن الايمان الحقيقي يهذب الروح كما الفن ويستوعب كل جمال خلقه الله.

10

في عام 2000 يزورني أبي لسبب عارض في مكتبي. كان وقتها في الثالثة والخمسين، أكمل ما يكون في الحسن والنضج، شابت لحيته فصار صورة طبق الأصل من الفنان نور الشريف في فيلم المصير. زارني أبي ورحل، فازدحم مكتبي بالزميلات اللائي جئن ليخطبنه مني!! وصارت زيارته تلك وطلته السريعة مثار أحاديث لا تنقطع على مر أعوام بلا مبالغة. فعرفت أن جمال الباطن له سحره، وأن الجاذبية من علم ربي، سر موهوب لا يصنعه الاصطناع والادعاء والحفلطة.

11

تمنيت دائمًا أن أكون على قدر الفن الذي يرضي أبي، ومن هؤلاء الفنانين الذين يشيد أبي بفنهم، وعملت دومًا على أن يكون هو المقياس لما أقوم به، وتشاء الأقدار أن يمرض أبي قبل أن يتحقق أي ملمح من مشروعي ثم يرحل قبل أن أنشر أي حرف. لكنه يظل دائمًا أول قرائي أعرض عليه ما أكتب ليل نهار قبل أن أقرر أنا جودته.

12

أنت أصل كل جميل.. وسبب كل المعارف..
واليوم –وأنا في موقعك كأب- أعرف أن الأستاذية ليست بهذه السهولة، وأعرف أنك أعظم مما تخيلت، وأكثر نبلًا من شعوري بك كإبن، وأكثر صعوبة من أن تطال قمتك الشاهقة..

لا أحد ينجح بمفرده.. ملف خاص عن “الأستاذ”