محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. زيارة لمثلث الذهب

مارس ٢٠١٦

مد إليَّ قدح الجَّبنة فاحتسيته ورددته له فملأه وقدمه لي مرة أخرى، فاحتسيته ورددته له من جديد فإذا به يملؤه ويقدمه لي مرة ثالثة !

هممت برفض الفنجان فهمس لي أحد الجالسين في الخيمة بجواري: (اشرب).

تناولت الفنجان مرغما واقتربت من أذن جاري:

أنا: (إيه أنا تعبت من كتر القهوة وكل ما أرجع الفنجان يرجع مليان وأنت بتقولي اشرب؟ )

هو: (وأنت مرجع الفنجان حط صباعك عليه من فوق وهو مش هيجيبه تاني بس خلي بالك لازم تكون شربت عدد فردي من الفناجين واحد أو ثلاثة أو خمسة.. لأن هي دي عادات قبيلة العبابدة).

المسافة بين القاهرة ومثلت حلايب وشلاتين حوالي ١٢٠٠ كيلو متر قطعتها أنا قاصدا إعداد تقرير يؤكد انتماء أبناء هذا المثلث إلى مصر رداً على التحركات والشائعات التي أرادت نسبته إلى دولة السودان.

أؤمن أنا تماما بمصرية مثلث الذهب ولكني أقلق جدا من التقارير التي تُنتَج لغرض سياسي فالغرض عادة ً ما يقتل روح التقرير ويحوله إلى خطابة مصورة، أما التقرير الذي يولد حُر فهو الذي يُنتَج مفعماً بالحياة والأحاسيس وتلك هي نوعية التقارير التي أفضل أنا إنتاجها، ولذا قررت أن أتجاهل الغرض من التقارير مؤقتا وأدع تقريري عن حلايب وشلاتين يولد حُراً.

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حريق الحزب الوطني وحكمة أمي!!

أشهر قبائل حلايب وشلاتين هما العبابدة والبشارية ولا سبيل لفهم الأرض إلا بالاقتراب من سكانها.

في خيمة  العبابدة التقيت محمد زين العبادي المتحدث باسم القبيلة قدم لي الرجل فنجان الجَّبنة وهي قهوة العبابدة ومعظم أبناء شلاتين، شربت ثلاثة فناجين قبل أن أدرك أنك كضيف لا بد أن تشرب عددًا فرديًا ثم تضع أصبعك على الفنجان ليتوقف خط تقديم القهوة إليك.

محمد زين العبادي حدثني عن الباب السري الذي يدخل منه الراغبون في إثارة المشاكل والمشككون في ارتباط شلاتين بمصر إلى بعض أبنائها؛ إنه الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة فلا فرص عمل في المثلث إلا لرعي الأغنام على مياه الامطار أو العمل في تحميل وتفريغ البضائع القادمة من وإلى السودان في ساحة الحصيرة، أو في الزراعة لمن يمتلكون الأراضي الخصبة.

على التبة كان منظر الجِمال بديع يتم إنزالها أو تحميلها فوق العربات أو فحصها للاتفاق على الثمن، ولما لا ؟ فأنت هنا في تبة جمال شلاتين أكبر سوق للجمال في مصر .

علي البشاري شيخ قبيلة البشارية ومصدري عنهم، على تبة الجمال كان موعدي معه فهو من كبار تجار الجمال، مصري الملامح والهوى أيضا.

بحماس تحدث البشاري عن جهود مصر الكثيرة في تنمية المثلث، عن الطرق التي تم شقها ورصفها، عن المؤسسات الخدمية التي أنشئت .

يعرف هو جيدا حجم ما قدمته مصر للمثلث ويدرك أيضا حجم ما زال ناقصا .

التنمية تتحقق خطوة فخطوة لكن الانتماء للوطن كاملا وأصيل .

التقرير كالإنسان له جانبان أحدهما جاد وأحدهما ترفيهي ولا يكتمل بناء التقرير إلا برصد الوجهين .

سألت أبناء مثلث شلاتين عن أهم أغانيهم التراثية فقالوا أغنية (صُبي الجَّبَنة يا بنية )، إذاً هي ستكون الخلفية الموسيقية للتقرير الذي وُلد حراً كأبناء مثلث حلايب وشلاتين، فقال ما أرادوا هم أن يقولوا.

حديث الكاتب والناشر كريم الشاذلي على هامش حفل توقيع كتاب “الملك والكتابة” للكاتب محمد توفيق