محمد ناير يكتب: أن تكون محمد خان

في إحدى ليالي شتاء عام ٢٠٠٨، كنت أعمل على لمسات السيناريو الأخيرة لفيلم (الوتر)، بقلب مكتب صديقي المنتج والمخرج مجدي الهواري.

فجأة دخل إلى مكتبي وطلب مني التوجه إلى مكتبه ليعرفني على شخص ما، خطوات بطيئة لمكتب مجدي المطل على نيل المعادي من أبراج عثمان ومكتبه الزجاجي الأشبه بحوض السمك، ورجل يجلس من أمام المكتب بجسد ممتلئ ووجه بشوش وكوب قهوة وملابس كاجوال ثم نظرة جادة ومصافحة حميمة.. إنه محمد خان (رحمة الله عليه). فوجئت كالأطفال في محل الحلوى بتواجدي مع هذا الرجل الذي شكلت أفلامه مشاعر جيل بأكمله من محبي السينما العربية، من أول “ضربة شمس” مرورًا بـ”أحلام هند وكاميليا”، “سوبر ماركت”، “زوجة رجل مهم”، “موعد على العشاء”، “أيام السادات”، وغيرهم من الأعمال التي ستبقى تاريخًا في السينما المعاصرة أشبه بآثار المصريين القدماء لا يمحيها صلدا أو زمن.

كان خان حاضرًا للقاء مجدي من أجل عرض شراكة فيما بينهم من أجل إنتاج فيلم جديد، ثم تحدثنا سويًا عن الأفلام وعن تاريخه وقصصه التي لا تمل منها ولا تملك سوى أن تستمع كي تستفيد من هذه الخبرة المطولة.

كان خان صريحًا لأقصى الحدود، لم يجاملني أو يشجعني، بل كان واضحا في السؤال، أي فيلم بتعمله لازم تكون عارف بتعمله ليه ولمين؟.

نرشح لك: بعد تكريمه في “كان” و”الجونة”.. 5 أخطاء وقع فيها مخرج “يوم الدين”

كنت متشوقا فعلا لإنهاء تصوير فيلم “الوتر” من أجل أن يشاهده الأستاذ ويخبرني عن رأيه فيه، لاحقا بعد انتهاء تصويره وأعمال المونتاج والصوت، قام مجدي بعرض مصغر للفيلم ودعى فيه الأستاذ خان لمشاهدة الفيلم.

عقب التيترات الأخيرة، لم أكن أفكر سوى في سؤال الأستاذ، كنت فرحا متشوقا لسماع وجهة نظره أخيرا، نظر إليّ ولحماستي ثم أخبرني بنصيحته الأخيرة التي أذكرها حتى الآن، “الفرحة الحقيقية ليست في غرفة مغلقة وإنما عندما تشاهد رد فعل جمهورك على ما قدمته من فن”.

منذ تلك اللحظة لم أشاهد عملا في حياتي يخصني إلا وأنا أتأمل في وجوه من حولي، انظر لتفاعلهم، أترقب مشاعرهم، اكتب النص وأنا أفكر في الآخرين قبل أن أفكر في رضا نفسي عما هو مكتوب، فكثيرا ما تحملنا الأفكار لما نظن أنه فن ويصدمنا الجمهور برأي مخالف، كثيرًا ما نصنع الأعمال لوقتها ثم نكتشف أن عمرها الفني أبعد من اللحظة الحالية.

تعلمت من نصائح قليلة الكثير في حياتي، حتى رحل عنا الأستاذ دون أن أجد الفرصة كي أشكره على ما قام به من تغيير في حياتي.

عقب عرض الفيلم جماهيريا، توجهت إلى مجدي للقاءه وسؤاله عن الأستاذ محمد خان، فأخبرني أنه حزين بسبب عدم توفر الإنتاج اللازم لخان كي يقدم عمله الفني التالي، فحزنت وتأثرت وتعجبت من عدم وجود تمويل مناسب لمخرج كل أعماله تقريبا علامات في صفحات تاريخ السينما.

مرت السنوات و قام خان بإنتاج وإخراج فيلمه (فتاة المصنع) ولم يلق الفيلم نجاحا جماهيريا – في حين أن الفيلم نفسه معبر ورقيق ولا يقل أهمية عن أغلب أفلام خان الاجتماعية – إلا أن جمهور السينما اختار نوعا آخر من الأبطال كي يطل عليه من الشاشة العريضة.

طلت علينا أفلام (أكشن الحارة ) ومغامرات البطل المهزوم وصراعاته مع أصحاب النفوذ من أجل المال والحب، من خلال الفتونة وحرب الشوارع، فوجد الشباب أنفسهم في مثل تلك النوعية، حتى لمع نجم شباب أبطال تلك النوعية من نجوم الشباك الحالي لتلك النوعية من الأفلام.

توفي خان في يوليو من العام ٢٠١٦، تاركا سؤالا يدور في ذهني، ما هو المعنى الحقيقي لشهرة صانع السينما؟ هل الإجابة تكمن في جماهيرية الفنان؟ أم تكمن في تاريخه الباقي من بعده؟

توفي خان تاركا من بعده إرثًا من الأفلام كلها (تقريبا) علامات ومناهج دراسية لكل من يريد تعلم صناعة السينما، توفي خان وهو يبحث ويبحث عن من يمول أعماله، توفي من دون أن يكون مليارديرًا لما يملك من مال، وإنما من أغنى صناع السينما في الوطن العربي بتاريخه الفني.

حين تحدث معي عن فيلم “الحريف”، وصف لي الفيلم بأنه قد عانى كثيرا في تقديمه بوجهة نظره وكيف اختلف مع الأستاذ الكبير عادل إمام في تفاصيل نهاية الفيلم، حتى ارتضى كلاهما بالنهاية الموجودة.

أخبرني عن فيلم “أيام السادات”، و كيف اصطدم بالأستاذ أحمد زكي، حتى عاد النجم الأسمر لتأدية الدور وفق ما رآه خان مناسبا للأحداث. حدثني عن صدامه مع الأستاذة سعاد حسني في فيلم “موعد على العشاء”، وكيف حاول مرارا إقناعها بمشهد المشرحة الشهير. اصطدم خان بعادل إمام و أحمد زكي وسعاد حسني كي يقنعهم بوجهة نظره في أفلام بقيت لنا كأساطير تحكى على الشاشة ونحلم بنصف فرصة لتكرارها مرة أخرى.

وافق عمالقة التمثيل في عهده على الامتثال لرؤيته، إيمانا منهم بأن الرجل يصنع التاريخ وليس مجرد فيلم تجاري سيحقق ما يحقق ثم يموت في مكتبات العرض التلفزيوني.

اليوم، ومع سيطرة بعض نجوم الشباك على معادلة السينما وإنتاجها، يحل السؤال مجددا إلى ذهني، أيهم أهم ؟ أن يقود النجم المعادلة الفنية من حيث الخيال والسيناريو وطريقة التنفيذ من أجل تحقيق معادلة شباك التذاكر وجماهيرية الفيلم؟ أم أن يترك صناع السينما الفرصة للكاتب والمخرج والمنتج سويا لتقديم عمل دقيق يؤمنون بتفاصيله المتقنة من أجل ترك بصمة للتاريخ؟

تتلخص الإجابة في مشهد بطله أحد نجوم الشباك الكبار الذي يسعى أن يكون (رقم واحد ) في كل شيء، حين سأله الأعلامي أسامة كمال عن وجهة نظره في استعراض إنجازاته المادية من سيارات وملابس ومنازل وغيرها، فأجابه أن هذه الأمور تعطي أملا للشباب في النجاح.

لم أع عن أي أمل يتحدث ؟! هل هو الأمل في المادة ؟؟ أم هو الأمل في أن يذكره التاريخ في يوم من الأيام لأعماله الفنية؟

توفي محمد خان وهو يبحث عن تمويل لأفكاره من أجل صناعة التاريخ، بينما بقيت شهرة البعض حاليا تتمحور حول زيادة الرصيد من سيارات فارهة وظهور اجتماعي مصحوب بشهرة لامعة قد يبقى أثرها مثل الألعاب النارية، تضيء السماء لدقائق وتنسحب تاركة رماد ما تبقى منها، في حين تبقى النجوم الحقيقية في سماء الكون، ويبقى ضيها رغم احتراقها و يظل ضؤها يتحدى الوقت كي يصل إلينا إلى الآن.

وليد علاء الدين يكتب: أساتذتي الأعزاء.. شكرا