محمد صلاح البدري يكتب: أين ذهب "النونو"؟!

لا أدري لماذا تذكرته الآن، ولكنني اكتشفت أنني أتوق لرؤيته بشدة!!

لم يكن “النونو” غريباً على أهل مدينتي الصعيدية الصغيرة، بل ربما كانت شهرته تفوق شهرة المحافظ، وأعضاء مجلس الشعب، من أعضاء الحزب الوطني، الذين كانت اسمائهم معلقة في شوارع المدينة بشكل شبه دائم، فبعضهم يهنئ المواطنين بالعيد في يافطة عريضة من القماش، والبعض الآخر ما زالت ملصقات الانتخابات الماضية تحمل اسمائهم في الطرقات، ربما حتى موعد الانتخابات القادمة!!

كان النونو هو “عبيط المدينة”، إنه ذلك الشخص الفاقد للأهلية الذي يجوب الطرقات دون هدف محدد، والذي يمكنك أن تجد نموذجاً منه في كل مدينة او قرية، البعض يعتبره “بركة”، والبعض الآخر يلقي عليه بكرامات لا يمتلكها بالفعل، ولكنه في كل الأحوال يتخذ هيئة ثابتة أقرب للدراويش الذين تجد منهم الكثير حول مساجد أولياء الله الصالحين، لا يمتلك مسكناً ثابتاً، ولا يعرف له أهل أو أسرة، بل ولا يعرف متى ظهر في المدينة بالتحديد!

نرشح لك : محمد مصطفى أبو شامة يكتب: ميلاد “إبداع إيجابي”

إنه موجود منذ زمن بعيد، ربما أبعد من ذاكرة الأحياء من أهل المدينة!

لم يعرف أحد عمره قط، البعض يؤكد أنه تجاوز الستين من عمره، وإن بدا أصغر بكثير، فلم يكن يحمل هماً لشيئٍ، إنه يأكل بقايا الطعام من الطرقات، أو ربما يحن عليه عم سليمان بشطيرة من الفول من مطعمه إذا طلبها، لا ينام في مكان محدد، ربما وجدته في الصيف أعلى الكوبري مفترشاً الرصيف باحثاً عن نسمة هواء لطيفة، وربما وجدته في الشتاء في شارع جانبي مظلم يختبئ من البرد!!

البعض يحكي أنه كان عاقلاً رشيداً، بل كان معيداً في كلية عملية يحضر رسالة الماجستير، ثم بعد أن انتهي منها تقريباً، وبذل مجهوداً خارقاً ليكمل ما طلبه المشرفين، صدمه المشرف الرئيسي للرسالة أنه غير مقتنع بموضوع الرسالة من الأساس، ويفضل أن يبدأ من جديد! فقرر بعدها أن يبدأ من نقطة تسبق ما يقصده المشرف بكثير، فارتدى “مريولة حضانة”، وحمل حقيبة صغيرة، وذهب إلي المدرسة، ليبدأ من جديد، ولهذا حمل اسمه الذي لم يعرف أحد له اسماً غيره “النونو”!!

أذكر أنني كنت أراه كل صباح وأنا ذاهب إلى المدرسة يجلس على الرصيف المقابل لها، ويحمل هرة صغيرة بين يديه يحاول إطعامها شيئاً ما، حتى جاء ذلك اليوم الذي رأيته أمام مدرستي الثانوية في الصباح الباكر لأحد أيام الشتاء، كان يرتجف من البرد، ملابسه خفيفة للغاية، ولم يكن يملك غيرها صيفاً و شتاء،  يحاول بيديه وحدها اتقاء تيارات الهواء البارد الذي ينخر في العظام، تعجبت من بقائه حياً وأنا لا أحتمل ذلك البرد بالرغم من أطنان الملابس التي ارتديها!!

لقد وجدته في هذا الصباح يقف فجأة، ويقترب مني في بطء، لم أكن أخشاه، ولكنني تسمرت في مكاني من عينيه الذي نظر إلي بهما في عمق وصمت، ثم مد يديه لينزع “الكوفية” التي ارتديها من حول عنقي، لم أحاول منعه من تأثير المفاجأة، فإذا به يأخذها ليلف بها تلك الهرة الصغيرة التي يحملها بانتظام وهو يربت عليها بحنان بالغ، ثم ينظر إلي مرة أخرى، لألمح شبح ابتسامة امتنان على وجه الممتلئ بالشقوق.

لا أذكر كيف بررت لوالدتي ضياع الكوفية في ذلك اليوم، ولكنها المرة الأخيرة التي رأيته فيها، فلم يعرف أحد أين ذهب بعدها.

لا أدري لماذا تذكرت “النونو” الآن، ولكنني شعرت بحنين شديد لرؤيته مرة أخرى، فهل يعرف أحدكم أين ذهب “النونو”؟!