محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. "بلد الدم والنار" وحكاية "زعيم الفلول"!!

في طريقي إليها في مارس 2013 كانت المشاعر متداخلة، فهي مسقط رأسي الذي ولدت فيه وتلك هي أول مرة أكلف بعمل تقرير موسع عنها، هي أيضا دائرة الدم والنار التي يترقب الجميع ما سيحدث بها في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة يناير 2011، وهي كذلك بلد العادات والتقاليد العميقة التي لا يسهل فهمها إلا بالتدقيق واستيعاب الخلفيات الثقافية والحضارية لتلك المنطقة من الوطن.

مشاعر متناقضة كانت تتقاسم حظها من رأسي، خلال رحلتي إلى محافظة “قنا”، بين صعيدي يريد أن يرصد واقع بلده، وصحفي يريد أن يصنع سبق صحفي بتوقع نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة، ومحقق تليفزيوني يحلم بتوثيق عادات أبناء الصعيد الجواني.

نرشح لك : محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. بورسعيد وبلطجية الشبول

حل التناقض أحيانا يكون أبسط مما نتخيل، وأعقد الأمور من النظرة الأولى، قد تبدو أبسطها عند النظر الثانية، وهو ما حدث معي بالضبط؛ فبعد أربع ساعات من الحيرة والتردد، وقبل وصولي إلى قنا بنحو ساعة ونصف وجدتها!

لتتوقع نتائج الإنتخابات كصحفي، لا بد أن تعي دوافع الناس كواحد منهم، ووقتها فقط ستكون قد وثقت عادات وتقاليد المكان، البداية إذن من التقسيم القبلي لأبناء قنا: العرب، الهوارة، والأشراف.

في مدينة “قفط”، وفي ديوان قبيلة العرب، بيت “دنقل”، وقفت أمام صورة شاعر الجنوب “أمل دنقل”، وقرأت له الفاتحة، قبل أن أتحدث مع ابن عمه عبد الفتاح الذي أخبرني أن العرب أكتسبوا اسمهم من الجزيرة العربية التي قدموا منها مع الفتح الإسلامي لمصر ثم انتشروا في محافظات الجمهورية المختلفة وعلى رأسها قنا، لأسأله أنا بعد ذلك عن أهم ما يميز العرب ويشينهم أيضا -من وجهة نظري- “العصبية والتعصب”.

عبد الفتاح كواحد من العرب يرى في العصبية ميزة مهمة فهي تجمع العائلة وتجعل موقفها واحدا سواء في الأمور الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى السياسية فإذا قرر كبير العائلة مثلا أن يدعم مرشحا بعينه في الانتخابات البرلمانية فإن أصوات كل عربي في الدائرة لا بد أن تذهب لهذا المرشح، وإذا كان أحد أبناء العائلة لا يحب هذا المرشح ولا يريد له النجاح فإنه لا يملك إلا الانصياع لصوت العصبية العائلية والتصويت لصالحه، لأن هذا المرشح في الغالب يكون من أبناء عائلة العرب، وإذا لم يوجد عربي بين المرشحين وهذا نادر فإن كبير العائلة يختار من يرآه الأفضل لمصلحة العائلة من بين المرشحين ويعلن تأييد العائلة له.

هذا الموقف الموحد للعائلة من وجهة نظر عبد الفتاح هو جوهر العصبية التي تجعل للعائلة وزن بين العائلات، لكن عبد الفتاح في ذات الوقت لم ينكر أن هذه العصبية هي نفسها التي تثير المشاكل في بعض الأحيان وخصوصا في النزعات التي يتعصب فيها العربي لأبناء الأسرة والعائلة فتتحول المشاجرات الصغيرة إلى نزاعات عائلية مسلحة تنتهي في كثير من الأحيان بسلسال من الدم يتمثل في التأر.

في مدينة قنا، وبالتحديد في ديون محمود النجار، عضو مجلس شورى قبيلة الأشراف لم تتغير اللهجة ولا القواعد التي حدثني عنها العربي عبد الفتاح دنقل، والتي تفرض على الشريف نفس ما تفرضه على العربي من الالتزام بقرار مجلس العائلة حتى وإن خالفه في الرأي، لكن التاريخ العائلي طبعا تغير، فالأشراف كما أخبرني النجار يستمدون مكانتهم القبلية من نسبهم الشريف الذي ينتهي بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

لم أفرغ كل ما في جعبتي في ديون الشريف النجار بمدينة قنا، لكني احتفظت فيها  بسؤالين أخذتهم معي إلى الهواري “أحمد حسن” الذي استقبلني في ديوان عائلة الهوارة بمدينة “دشنا” وفي يده كتاب قديم هو “سبائك الذهب في معرفة أنساب العرب”، أخرج لي منه أحمد حسن نسب الهوارة الذي يمتد إلى “بني سليم”، قبل أن أطرح عليه أسئلتي:

لماذا تصمم القبائل في قنا ومن بينها الهوارة على حيازة السلاح المرخص وغير المرخص؟

الرجل يرى في ذلك نوعا من “العزوة” والوجاهة القبلية التي توارثتها الأجيال فحال البندقية عند قبائل قنا كحال الفرس الذي يربيه العربي أو الشريف أو الهواري فيرتفع به شأنه بين الناس، كما أن للسلاح قيمة موروثة في الزود عن النفس، ترسخت في وجدان الجنوبي في الفترات التي كان الصعيد فيها بعيدا عن بؤرة الأهتمام الأمني والقانوني.

أما سؤالي الثاني عن سبب رفض القبائل الأشهر في قنا (العرب، والأشراف، والهوارة)، تزويج بناتهم إلا من داخل نفس القبيلة، رغم السماح للرجل بالزواج من أي أمرأة؟

فقد فسره لي أحمد حسن  بأن هذه العادة هي وسيلة تضمن للقبيلة البقاء وعدم التحلل، فالهواري حين يتزوج من أي أمرأة سينجب أبناء هواريين يضافون إلى العائلة، لكن الهوارية إذا سمح لها بالزواج من خارج القبيلة فإنها ستنجب أبناء يتبعون عائلة زوجها، وهو ما قد يقضي على القبيلة مع مرور الزمن.

زيارتي لدواوين العرب، والأشراف والهوارة في قنا، جعلتني أقف على طبيعة البناء القبلي لتلك المحافظة، ولقائي بعد ذلك بمدير مكتب جريدة الأهرام بقنا الصحفي “أسامة الهواري”، وبالناشط السياسي “مصطفى الجالس” عضو ائتلاف شباب يناير بقنا مكنني من فهم التأثير الكبير لهذا البناء على الأنتخابات البرلمانية في تلك المحافظة التي ينظر أبناءها لمرشحهم بعين العصبية قبل النظر إليه سياسيا.

نرشح لك : محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. تربي أسيوط ودفن الملائكة

ضميري الصحفي لم يكن مرتاحا تماما لتجاهلي للشق المسيحي في قنا والذي لا ينكر عاقل أبدا دوره في البناء الاجتماعي وفي اللعبة السياسية أيضا، ولذلك توجهت إلى مطرانية الأقباط الأرثوذكس بنجع حمادي حيث ألتقيت الأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي وابوتشت ولم اشأ أن أكون معه كالنعام الذي يغرس رأسه في الرمال فسألته مباشرة عن التأثير الاجتماعي والسياسي لمذبحة نجع حمادي عام 2010، التي أطلق فيها “الكموني” النيران بشكل عشوائي على تجمعات الأقباط بنجع حمادي اثناء خروجهم من احتفالات عيد القيامة المجيد فقتل ستة اقباط ومسلم وأصاب آخرين، لتندلع مقدمات فتنة طائفية استمرت لنحو أسبوع.

بهدوئه المعتاد أكد لي الرجل أن الأحداث كانت نتيجة لعلاقة عاطفية بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة كان يمكن أن تحل بهدوء إلا أن أشخاص بعينهم أشعلوها فتنة ليستفيدوا هم منها سياسيا وليضمنوا إبعاد الأقباط عن الإنتخابات البرلمانية نهائيا.

رغم انتهاء فتنة نجع حمادي ومرور ثلاثة سنوات عليها إلا أن الأقباط في نجع حمادي كما أكد لي اسقفهم، لا زالوا يفضلون عدم خوض الانتخابات البرلمانية 2013، وسيكتفون بدعم المرشح المسلم الذي يرونه الأفضل.

شعرت بالرضا بعدما أنهيت لقائي مع أسقف نجع حمادي، ولم يكن ينقص فيلمي عن قنا إلا سبق صحفي يناسب هكذا فيلم عن محافظة يسميها بعض المتابعين بمحافظة الفلول لأن معظم مرشحيها من قيادة الحزب الوطني السابق، ولم أكن أحلم طبعا بأكثر من مقابلة الغلول.

لم أكن قد ألتقيته قبل ذلك، ولم يكن هو يقبل الظهور في الإعلام على مدار ثلاث اعوام متتالية، منذ يناير 2011، لكن عبد الرحيم الغول الذي ظل نائبا ممثلا للحزب الوطني عن دائرة نجع حمادي لمدة أربعين عاما كاملة، قبل التسجيل معي.

في منزل عبد الرحيم الغول رصدت الصور الفوتوغرافية التي تختزل تاريخ الرجل البرلماني وتجمعه بفتحي سرور، وكمال الشاذلي وغيرهم، ثم أجريت معه القاء الذي أكد لي فيه أنه سيخوض الانتخابات القادمة وأنه يثق في الفوز بها، لأنه جلس في البرلمان المصري لأربعة عقود متتالية ليس بدعم من الحزب الوطني ولكن بدعم عائلته.

فأبناء دوائر قنا وفقا للغول لا يعترفون بالأحزاب لكن بالعصبية القبلية، أما هو شخصيا فلا ينكر انتمائه للوطني الذي انضم إليه ليخدم من خلاله ابناء دائرته. وقبل أن ينهي الغول حواره معي قال بصوت مرتفع” أنا عبد الرحيم الغول ابن نجع حمادي, افتخر بأنني زعيم الفلول”، عبارة تصدرت عناوين الأخبار والمواقع الصحفية بعدما أذيع فيلمي عن قنا دائرة الدم والنار.