محمد عبد الخالق يكتب: عن "فيروز المصرية" (1-3)

لأن صوتها لم يكن ملكها.. تركت قلبها على “شط اسكندرية”

“خلق موسيقى لبنانية ذات هوية واضحة”.. جملة واحدة صريحة وصفت المشروع الذي كرّس له الأخوان رحباني حياتهما، وحياة “فيروز” أيضًا، الصوت الذي حمل هذا المشروع إلى النور، واحتلا به آذان وقلوب المستمعين في مختلف بقاع العالم.

يبدو وكأن الهدف الأسمى الذي آمن به الأخوين (عاصي ومنصور) كان أهم من الانشغال بذكر اسميهما، فاختارا، في قرار -أراه مخالفا لطبيعة النفس البشري الفردية التي وهبتها الطبيعة قدرا من حب الذات- أن يتخليا طواعية عن اسميهما ويتركانهما في الظل، للتفرغ للمشروع والهدف الأعظم، ويكتفيان باسم واحد يرمز لهما الاثنين (الأخوين رحباني)، حتى عندما وجدا العنصر الثالث الذي يغلق لهما دائرة الإبداع لتتدفق فنا، تزوجها عاصي ليبقى المشروع عائليا.

نرشح لك: محمد عبد الخالق يكتب: أمنية مارلين مونرو

حسنا.. فقد تفيدنا المقدمة السابقة بعض الشيء في فهم السبب الأساسي وراء احتكار صوت فيروز لصالح الأغنية اللبنانية، وقلة غنائها ألحانا وكلمات مصرية، على عكس فناني جيلها والأجيال التي سبقتها والتي تلتها، الذين كانوا يمرون للنجومية عبر بوابة القاهرة، حتى إن الكثيرين منهم لم يَعرف الجمهور أنه ليس مصريا سوى مؤخرا.

لم تزر نهاد رزق وديع حداد، المولودة في بيروت في 21 نوفمبر 1935 مصر إلا عام 1954، وكانت وقتها تبلغ 19 عاما، وجاءت مع زوجها عاصي الرحباني لقضاء شهر العسل في الإسكندرية لترحل عنها ويبقى قلبها على “شط اسكندرية” رافضا مغادرته، لكن الحقيقة أن نهاد التي حولها الفن إلى “فيروز” تعرف مصر جيدا، تلك المعرفة التي لا تعتمد على رؤية وإنما تعتمد على روح وفن وشعور، تقول الروايات المتداولة عن طفول فيروز المبكرة أنها كانت تفضل البقاء طوال النهار داخل مطبخ منزلهم!!

هل تعرفون السر؟

كان مطبخ منزلهم هو أقرب نقطة لمنزل الجيران الذي يتسلل منه صوت الراديو الذي يبث أغانى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وأسمهان وسيد درويش، فتفتح وعيها الفني وتربت ذائقتها الموسيقية على الفن المصري وألحان كبار المطربين المصريين، ورددت معهم كلماتهم على استحياء، فبدأت تلك الطفلة في الغناء عام 1940 في كورال الإذاعة اللبنانية قبل إتمام عامها السادس.

وعندما غنت في مرحلة تالية بعد احترافها الغناء تراث سيد درويش مثل ” أنا هويت – أهو ده اللي صا “، وحتى أغنيات “الحلوة دى – زورونى – طلعت يا محلا نورها” لسيد درويش التي أخذ الأخوين رحباني مطالعها وأكملا عليها من ألحانهما وكلماتهما، تظهر مدى تشبع فيروز بروح الألحان المصرية بشكل غريب على فتاة لبنانية صغيرة، ولا يبرره سوى تربيتها على تلك الألحان وتذوقها الجيد لها.

حكت فيروز عن زيارتها الأولى لمصر وتحديدا إلى “عروس البحر المتوسط” مدينة الإسكندرية في لقاء تليفزيوني استضافتها فيه الإعلامية سلوى حجازي كان عنوانه “أهلا وسهلا” وكان يقوم بإعداده الكاتب أنيس منصور، وقالت: أتيت إلى مدينة الإسكندرية لقضاء شهر العسل مع زوجي ورفيق دربي الشاعر عاصي الرحباني، وكان ذلك عام 1954 وأحبب تلك المدينة جداً، فتأثرعاصي بإعجابي وحبي لها فكتب الأغنية الأشهر عن الإسكندرية “شط إسكندرية”.

فيروز في الإذاعة المصرية وثورة نقابة الموسيقيين ضدها

وبعد هذه الزيارة بعام واحد فقط، وتحديدا في عام 1955، طالب الزعيم جمال عبد الناصر أحمد سعيد المسئول عن إذاعة “صوت العرب” بدعوةالأخوين رحباني وفيروز للقاهرة، لدعم القضية الفلسطينية، وكان عبد الناصر يعشق صوتين نسائيين أم كلثوم وفيروز، ويجدر هنا الإشارة إلى الجملة التي رددها الكثيرون ونسبوها للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أنه قال أن الزعيم عبد الناصر الذي كان يعشق صوت فيروز ظل يردد كلما سمعها تغني: ”من أخطاء المصادفات أن فيروز وُلدت خارج مصر”.

ورأى أحمد سعيد أيضا أن فيروز خير من يغني للقضية الفلسطينية بسبب قرب اللهجة، وقدمن فيروز بالفعل أغنيتين للإذاعة، الأولى بعنوان “راجعون” من كلمات وألحان الأخوين رحباني، وشاركها فيها الغناء المطرب المصري كارم محمود، وأدي وصلتين، ثم عادت فيروز تسجيلها بعد ذلك بعامين مع بعض التعديلات في الكلمات، أما الأغنية الثانية فكانت قصيدة بعنوان “سوف أحيا” كلمات الشاعر مرسى جميل عزيز وألحان الأخوين رحباني.

وفي هذه الأثناء عرضت الإذاعة المصرية على فيروز تسجيل 50 أغنية في مشروع متكامل لإحياء تراث سيد درويش وداود حسنى، ولا ندري السبب الحقيقي الذي حال دون تنفيذ هذا المشروع، هل كان عدم رغبة فيروز وإدارتها الفنية (الأخوان رحباني) في انغماسها في اللون المصري، وتمسكهم باستكمال مشروع الأغنية اللبنانية، أم كان السبب هو تلك الضجة والرفض الكبير من الفنانين المصريين وقتها، الذين رأوا أنهم أحق بتراث بلدهم لدرجة أن تقدمت نقابة الموسيقيين المصريين بمذكرة احتجاج إلى وزير الإرشاد القومى آنذاك، وهددت باتخاذ إجراءات وقائية لحماية أعضائها.

ولم يترك هذا الموقف في نفس فيروز أو الأخوين رحباني أية آثار سلبية تجاه مصر، فبعد هذا الموقف بشهور قليلة قدمت فيروز من كلمات وألحان الأخوين رحباني “أنشودة الزمان” التي تغنت فيها بحضارة مصر وحاضرها ونهضتها تقول فيها: “أرضنا أنشودة الزمان / سخية الغلال عميقة الإيمان”، “لضجة المصانع لحني وللقباب / فيض دخان طالع يعانق السحاب”.

في الحلقة (2):

– “موسيقار الأجيال” يترك بصمته على “سفيرة النجوم”… كيف بدأ التعاون مع “صوت الفن”.

– “النكسة” التي هزمت مشروع تقديم “مجنون ليلى” بصوت العندليب وجارة القمر.

– “زهرة ربيعية لا تعرف الاصفرار” فيروز في القاهرة للمرة الثانية.