علي الشريف من معتقل الواحات إلى رحاب أهل البيت

أمنية الغنام 

بقدر معاناة الإنسان ومعايشته للخبرات بقدر ما ترسم ملامح شخصيته ويصقل فكره، وتتجسد بالتالي اتجاهاته وانتماءاته في اختيار قراراته في الحياة، ينطبق هذا الكلام بشكل كبير على الفنان الراحل علي الشريف الذي اختار الفن، والتمثيل تحديدا ليكون متنفساً له ساعده على مدار حياته في الجمع بين عبقرية بساطته وبين عمق تجربته السياسية ليقدم نفسه للجمهور بشكل مختلف عن جميع أقرانه، ساعده على ذلك ملامح وجهه وصوته الأجش.

إعلام دوت أورج حاور ابنه المخرج المسرحي حسن الشريف الذي استعاد بعضاً من ذكراياته عن والده في التصريحات التالية:

-الرضا كان هو العنوان الأبرز لوالدي ، فلم يُظهر يوماً الضيق لعدم تكريمه بالشكل اللائق والتي حالت بعض المعوقات السياسية بينه وبين الحصول عليه. حيث كانت ميوله السياسية يسارية، وكان عضواً في تنظيم يساري أعتقل على إثره عام ٥٨ وكان في السنة الثانية من دراسته الجامعية، وكان يتم نقله مع رفقائه من المعتقلين مابين معتقل الواحات وسجن القلعة حتى أُفْرج عنه عام ٦٤، ومن وقتها أصبح من المصنفين ضمن إطار معين.

 -بعد النكسة ٦٧ حدث لكل اليساريين إحباط سياسي وشعروا بتصنيفهم في اتجاه ذو صبغة معينة، وأعتقد أن هذا التصنيف ربما مازال قائماً حتى فترة قريبة.

-كان والدي والعديد من المثقفين والسياسيين المعتقلين في تلك الفترة يتم نقلهم سوياً سواء من سجن القلعة الى الواحات أو العكس مما خلق حالة من ضرورة التنفيس عما بصدورهم والتغلب على حالة الفراغ وبطء مرور الوقت فبدأوا بتأليف المسرحيات وتمثيلها وعرضها أمام بعضهم البعض وكان الغرض منها تبادل الأفكار والرؤى السياسية.

-بالإضافة لنشاطه في تجسيد الأدوار المسرحية داخل معتقل الواحات، ساعدته أصوله الريفية أن يتجه لزراعة المكان خاصة مع تأخر وصول الطعام الذي كان يقدم مرتين أسبوعياً، فكان الجوع صعباً مما دفعه هو ورفاقه في اللجوء للزارعة كبداية وحل لتعمير تلك المنطقة، التي كانت تترك فيها أبواب المعتقل مفتوحة لمن يريد الهرب ..لكن إلى أين المصير ؟…سيهلك من يحاول قبل وصوله لأقرب منطقة عمار، ومثلما نجحوا في تعميرها زراعياً نجحوا في تعميرها ثقافياً من خلال مسرحياتهم٠

-السيناريست حسن فؤاد، والشاعر فؤاد حداد، الكاتب صلاح حافظ وعبدالمنعم سعودي هم أبرز رفقاء والدي في المُعتَقل، ولما خرج أتم دراسته في كلية التجارة بعد أن كان قد التحق قبلها بكلية الهندسة التي كانت تتطلب المذاكرة والمتابعة المستمرة وتركها لأنها أخذته من ممارسة نشاطه السياسي.

-كان والدي يحب القراءة كثيراً وفي جميع المجالات تقريباً.. سواء الدينية منها أو التي تتناول الليبرالية أو الشيوعية كان يقرأ لكارل ماركس عن رأس المال وكتب عن الإقتصاد الإسلامي ولعبد الرحمن الكواكبي وتاريخ إبن كثير بالإضافة لكتب المسرح في مرحلة لاحقة.. فقد كان محباً للمسرح “لأنه مالوش حل غير التمثيل”.

-تجربته في التمثيل مع الفنان عادل إمام تتلخص في حبهم للعمل سوياً وكأن بينهما “كيمياء” خاصة ودرجة كبيرة من التفاهم، وحتى هذه اللحظة عندما يذكره الفنان عادل إمام يذْكره ب”عم علي” ويتكلم عنه بإعزاز وباعتباره فنان مثقف ومصري يحب بلده ويخاف عليها لأن والدي.

-من أكثر ما كان يميزه هو هذا الكم من الخبرات الانسانية وتلك الحكاوي المغلفة بمعاني الإنسانية. وكثيرا ما كنت أحاول استفزازه للحديث عن فترة المعتقل لكنه كان يرفض تماماً سيرتها لأنها كانت فترة صعبة جداً من شدة ما عاناه من تعذيب يرفض تذكرها بل وصل به الحال

أنه كان لا يحب أن يُقفل باب أو شباك وكان ينام والنور مضاء ولا يحب العتمة أبداً وأذكر أننا كنا ننام وباب المنزل نفسه مفتوح، رحمة الله عليه كان إنساناً بسيطاً جداً يجلس على الأرض وليس عنده اعتبار أنا فنان…كان على الله.

-ورثنا عنه حب الناس البسيطة الذين يمثلون ٩٠٪؜ من الشعب المصري، تعلمّنا منه كيف نحبهم بصدق وأن نكون محاطين بهم دائماً، وربما كان هذا السر في أنني عندما أقابل أناس من محافظات مختلفة ينسبونه إليهم وأن ابن محافظتهم فقيل أحياناً علي الشريف من بني سويف ،علي الشريف من أسيوط بل من الأسكندرية أو بور سعيد.

-أسرته من ميت عقبة لكن تمتد جذورنا للمملكة العربية السعودية فنحن من أشرافها وننتسب لنسل سيدنا الحسين حيث ترجع أصولنا للوفود العربية التي قدمت من شبه الجزيرة العربية.كان دائماً يقول أننا كأسرته نعود في الأصل لشبه الجزيرة العربية وإقامتنا في مصر وجَدّته من الخليل وأخته تزوجت أردني وأصبحت أردنية فكأننا جمعنا القومية العربية متوحدة في أسرة واحدة.

-لا علاقة له بمعهد التمثيل ولم يدرس به بل كانت موهبة وتفجرت بشكل احترافي من خلال الممارسة وفنياً تقولبت وفقاً لمتطلبات السوق وقتها فكانت معظم أدواره مابين دور رئيس عصابة أو دور المَعلّمْ وأذكر جيداً  أنه كان يعمل في حوالي ١٨ فيلماً في نفس التوقيت كأنه “تميمة” في وقت كانت السينما فيه مزدهرة أكثر.

-بلغ إنتاجه الفني حوالي ١٨٠ فيلم سينما و٢٦ مسلسل وسهرة تليفزيونية و١٣ مسرحية وذلك في الفترة من عام ٦٨ وحتى عام ٨٧ هي طوال عمله في المجال الفني أي حوالي ١٩ سنة.

-فيلم “الأرض”هو أول أفلامه والتي كتب السيناريو الخاص به السيناريست حسن فؤاد أثناء اعتقاله في معتقل الواحات مع والدي وذلك عن رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، سلّمه بعد ذلك للمخرج يوسف شاهين الذي قال له” كل شخصيات الفيلم اتشكلت في ذهني ماعدا شخصية دياب” فردّ عليه فؤاد حسن أنه سيعرض عليه شخصاً، وبالفعل عندما وقعت عينا شاهين على والدي ناداه “يا دياب” فكان يرى فيه هذا الشاب العفوي البسيط أو الفلاح المغلّف بورق السوليفان.

-حصد  “الأرض” عدة جوائز من جمعية الفيلم ونال والدي جائزة أحسن ممثل دور ثان ، وتوالت الأفلام بعد ذلك وبدأ النقاد في الكتابة عنه حتى ٧٢ عندما طلبه يوسف شاهين مرة أخرى للقيام بدور الشيخ أحمد في فيلم “العصفور” و بالرغم من عرضه ١٠ أيام فقط لكنه شارك بمهراجانات عدة.

-عمل والدي فترة السبعينات مع الكثير من المخرجين أمثال أشرف فهمي،كمال الشيخ، هنري بركات وصلاح أبو سيف ثم بدأت مرحلة القولبة وحصره في أدوار بعينها في الثمانينات حتى أنه كان يتم تأليف بعض الأدوار التي تكتب خصيصاً له ليضفي على الفيلم الشكل الخاص به بما يتمتع به من ملامح الوجه وتعبيراته ونبرة صوته المميز.

-كان متفقاً مع يوسف شاهين فنياً ومختلفاً معه أيدولوجياً عكس المخرج علي بدرخان كان متفقاً معه كثيراً بالرغم من أنه لم يعمل معه سوى فيلماً واحداً هو “الكرنك”حيث كانا يميلان للاتجاه القومي الاشتراكي وكان والدي دائماً يفتخر بقوميته.

-في أحد مشاهد أفلامه كان يقوم بتمثيل دور “عربجي” وأثارت الإضاءة والكاميرات عينا الحصان فانطلق يجري وعلق اللجام في قدم والدي فأخذه على ظهره وجري به مسافة ٢ كيلو متر فأصابه بجروح كبيرة لكنه كان يرى باستمرار أن تلك العذابات لا تقارن بما عاناه في المعتقل.

-كان شديد الولاء لفنه، أذكر أنني كنت معه في زيارة للطبيب لإجراء عملية جراحية “البواسير” وكان عنده مسرح بالليل وهذا الطبيب كان في المعتقل معه وقال له لابد من استخدام المُخدر لإجراء الجراحة لكنه رفض وطلب منه إجراءها وهو متيقظ حتى لا يتسبب في تعطيل العرض المسرحي والعاملين.

-كنا في بور سعيد والجو شديد البرودة فقام بشراء “بلوڤر” ولما خرج من المحل وجده صناعة إسرائيلية فطلب مني أن ألملم بعض الأوراق من الشارع ووضع عليها البلوڤر وأشعل فيه النيران. كان رافضاً لفكرة التطبيع.

-عم فؤاد حداد عم حسني شرقي الفنان عادل امام والفنان سعيد صالح والفنان أبو بكر عزت والفنان صلاح السعدني كانوا من المقربين له من الأصدقاء حتى وفاته.

-اليوم السابق على رحيله كان يجري البروفة النهائية لمسرحية علشان خاطر عيونك وكانت سواريه- قام بدوره بعد ذلك الفنان غريب محمود-وكذلك البروفة النهائية لمسرحية الأطفال”علي بابا وكهرمانة”وتُعرض ماتينيه وعاد إلى المنزل حوالي الساعة ٣ فجراً -كانت كحّته المشهورة بمثابة إعلاناً لدخوله العمارة- وبدأ يقرأ في كتاب عن سيرة سيدنا الحسين وموقعة كربلاء والتمثيل بجثته -رضي الله عنه- وظل يبكي كثيرا وبنحيب حتى الساعة ٦.٣٠ صباحاً طلب من والدتي ألاّ تذهب للعمل وأن توقظنا لأنه سيموت بعد قليل عندها ردت عليه “شكلك مش باين عليه أي علامات موت” لكنه قال “لأ هموت” ورفض طلبها بالذهاب للطبيب وقال أنا كده كده ميت خلّيني أموت في البيت” ثم قام وفتح شرفة غرفته ونطق الشهادة وقال “مدد يا حسين جايلكم يا أهل البيت” ونام على السرير وأوصى والدتي بما له وبما عليه وطلب منها  سداد ما عليه أولاً قبل المطالبة بما له.كما أوصاها بأكبر أبنائه وهو أنا وكنت أبلغ حوالي ١٤ سنة وبأصغرهم وهي أختي أسماء وكان عمرها وقتها سنة ونصف من مجمل ٦ أخوة ثم ثَقُلَت رأسه وأغمض عينيه وفارق الحياة. ومازلت أحتفظ ببعض عباءاته وبعضاً من جلبابه.