محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. تربي أسيوط ودفن الملائكة

نوفمبر ٢٠١٢، ما إن وطأت قدمي قرية المندرة بأسيوط حتى تنفست الحزن، الذي كان يعبأ شوارع وطرق القرية، ليست هذه هي المرة الأولى التي أغطي فيها حادث راح ضحيته أكثر من خمسين شخصًا، لكن الحزن هنا مختلفًا تمامًا، فهو يفيض من البشر ومن الحجر أيضًا.

نرشح لك – محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حلم المونديال ومواجهة “أم درمان”

ربما لأن معظم الراحلين هم من الأطفال الذين كانوا في طريقهم إلى معهد نور الإسلام الأزهري عندما دهسهم قطار الموت وهم يعبرون مزلقان المندرة، لتختلط دماء الملائكة الصغار وأجسادهم بقطبان السكة، وحديد القطار، وتراب الأرض.

التغطية الصحفية بالنسبة لي كانت محاطة بالصعوبات فالتقرير سيُذاع بعد يومين من الواقعة، وقد تشبع الناس بصور الحادثة، وأرقام الضحايا وأخبار القبض على عامل المزلقان، ما يتطلب التناول من زاوية جديدة.

على الجانب الآخر يرفض أهالي الأطفال الحديث لوسائل الإعلام فأحزانهم أكبر من الكلام، وأنت رغم احترافك الصحفي لا تستطيع أن تضغط عليهم لقبول التسجيل، فأمام جلال الحزن لا يملك الإنسان إلا الدعاء بالرحمة، التي لا تعرف هل تطلبها للموتى، أم تدعوا بها لآبائهم الأحياء الذين يبدون أكثر احتياجًا لها.

بين حزن الإنسان واحترافية المراسل الصحفي كان لا بد لي أن أبحث عن مدخل خارج الصندوق، ينقذ التقرير من خطر التكرار، وينقذني وفريق العمل من أزمة ضياع الوقت ونحن على بعد نحو ٤٠٠ كم من العاصمة.

لم يكن مقبولا بالنسبة لي أن أكمل هذا التقرير بدون لقاء حمادة عبد الرشيد الرجل الذي كان له نصيب الأسد من حادث مقتل الأطفال، الرجل كان صابر إلى حد صادم، وبرضا عجيب قال لي: “خمسة من ولادي ماتوا في الحادثة، أربعة ولادي والخامس ابن أختي كان عايش في بيتي ومتربي مع ولادي، الخمسة كانوا من حفظة القرآن كان نفسي يختموا بس الحمد لله إن شاء الله هيكملوا حفظه في الجنة”.

انهى حمادة كلامه ورفض أن يدين أحد لا عامل المزلقان ولا سائق الأتوبيس، ربما لأنه يؤمن أن الإهمال أكبر من هذين البسيطين بكثير، وربما لأنه يدرك أن موت ابنائه كان قدرًا لا مفر منه.

بعدما اعتذر لي حمادة عن الحديث مع زوجته أم الضحايا الخمسة، لصعوبة حالتها، قررت أنا أن أذهب إلى المصدر الذي لم يسبقني إليه أحد، رغم أنه شاهد عيان على الجزء الأهم والأكثر روحانية من حادث مقتل الملائكة.

في ترب قريتي المندرة والحواتكة التقيته: ستيني العمر هو، أسمر البشرة، غائر العينين، قربه الشديد من الموت كساه رهبة غريبة، إنه عم “حفظي سعد” تربي القرية الذي دفن بيده في يوم واحد أكثر من عشرين طفلًا كان يعرفهم جميعًا.

التربي حكى لي عن مشاعر أهالي الأطفال الذين كان قليل منهم غاضب، وكثير منهم راضي وصابر، أغرورقت عيون الرجل وهو يقول لي أن يوم الحادثة كان الأسوء في عمره، فبيده دفن أسرة بالكامل، وبيده دفن أربعة أشقاء، وعندما سألته عن الشيء الغريب الذي يشاع أنه رآه وهو يدفن أحد حفظة القرآن من الأطفال، ابتعد حفظي سعد من أمام الكاميرا وقال لي هامسا: “مع السلامة يا بيه، دي أسرار الموت ما ينفعش تتحكي ولا تتقال”.