محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حلم المونديال ومواجهة "أم درمان"

١٨ نوفمبر ٢٠٠٩

أخيرًا وبعد عدة محاولات فاشلة هبطت بنا الطائرة في مطار أم درمان بالسودان،

كنت مرهقًا جدًا فتلك الرحلة بدأت منذ أكثر من عشر ساعات، أمام مقر الحزب الوطني بوسط القاهرة في الخامسة صباحًا تقريبًا، وبين التجمع أمام مقر الحزب، والانتقال لمطار القاهرة والبحث عن قوائم المسافرين، والتزاحم والتكدس، ثم ركوب الطائرة، والهبوط في مطار أم درمان غير المؤهل لاستقبال كل هذا الكم من الوافدين انقضت الساعات العشر، في رحلة يفترض ألا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات على أية حال.

نرشح لك: #كأس_العالم: دليل مباريات اليوم السبت 30 يونيو 2018

رغم الإرهاق كنت أنا وكل من معي من الصحفيين والمراسلين وحتى شباب الحزب الوطني مزهوين بالأمل في الفوز والتأهل للمونديال والاحتفال بالمنتخب المصري بعد انتصاره على قرينه الجزائري في المباراة التي لم ستقام بعد أقل من ساعتين باستاد المريخ بأم درمان.

خرجت من ساحة المطار أنا وفريق العمل المصاحب لي فلم نجد مكانًا في الأتوبيس المخصص لنقل الوفد إلى استاد المريخ، فكثافة الأتوبيس كانت لا تتسع لأكثر من عُشر الوفد، أما عملية الدخول إليه فكانت تقوم على مبدأ “الحقلك مكان، والركوب بأولوية الوصول لباب الأتوبيس”.

الأتوبيس الوحيد انطلق إلى الاستاد، وانتظرت أنا وكثير من الوفد المصري قدوم الأتوبيس الثاني، وفجاة اقتربت مني فتاة سودانية وقالت لي: “هو مش أنتم الوفد المصري، هاتوا الإعلام المصرية وتعالوا أوزعها معاكم على المحلات هنا”.. اعتذرت لها مؤكدًا أنني من الوفد الصحفي، أما المنظمون وممثلوا اتحاد الكرة فسيظهرون الآن ويبدأون في توزيع الأعلام.

تركتني الفتاة وعلى وجهها علامات الاستياء، أما أنا فقد قررت أن أبدأ في عملي الصحفي حتى يحن علينا المنظمون ويحضرون الأتوبيس.

في الجهة المقابلة للمطار توجد منطقة تجارية فضلت أن أبدا منها العمل، وعند محل لعصير القصب توقفت، بُهِتُ عندما وجدت على حائط المحل صورة للمنتخب الجزائري، فسألت البائع الذي يبدو كبائعي العصير في شارع فيصل بالجيزة: “يعني ينفع كده نبقى إخوات وجيران وبدل ما تشجعنا تعلق صورة المنتخب الجزائري”،

رد البائع بحياء: “حقك علي يا زول، شوية شباب جزائري بيلفوا في البلد من ٣ أيام يقولك  خد ٢٠ جنيه ولزق الصورة دي أو علق العلم ده في محلك، حتلاقي كل المحلات كده، بس والله يا زول القلب مع مصر أم الدنيا، بس قلنا نستفيد بالـ٢٠ جنيه”.

تذكرت فجأة أهل العراق في موقع كربلاء الذين كانت قلوبهم مع الإمام الحسين أما سيوفهم فعليه، واستعدت كلام المسئولين باتحاد الكرة حول اختيار السودان الذي يصب في مصلحة مصر، بفعل العلاقة التاريخية والقرب المكاني والوجداني، وتمنيت لو أنهم شاهدوا فيلم “اللمبي” واستوعبوا مقولته الجهنمية: “الجنيه غلب الكارنيه”.

فجأة وجدتني أرى المشهد من حولي كأنه مجرد تمهيد لمشهد ذروة سيحدث قريبًا.. نظرت في الساعة فوجدت موعد المباراة لم يتبقَ عليه إلا ساعة واحدة، عدت إلى المطار ولم يكن أتوبيس المنظمين قد وصل، أصبحت واثقًا أنه لن يصل أبدًا، اقنعت فريق العمل باستأجار سيارة والتحرك فورًا إلى استاد المريخ.

بعد ٤٠ دقيقة من السير في طرق مدينة أم درمان التي كانت ممتلئة بالأعلام وبالمشجعين الجزائريين وصلنا إلى الاستاد لنستقبل هناك الصدمة الأكبر

أبواب الاستاد مغلقة ولا مكان لنا، لكن كيف ونحن وفد رسمي يفترض أن لنا أماكن وتذاكر دخول؟

الإجابة جائتني من أحد الزملاء المتخصصين في الشأن الرياضي، والذي قال بنبرة ساخرة: “اهدى يا حكيم، الحسبة سهلة خالص، المفروض أن احنا كمصريين لينا 40% من التذاكر، والجزائريين ليهم زيهم، وللسودانين لأنهم البلد المضيف 20% من التذاكر، و”احنا طبعًا العشم قتلنا وقلنا أن الـ20% بتوع السودانيين هيشجعوا مصر ويبقى لينا 60% من الجمهور”.

“الجزائريين بقى ما تعاملوش بالعشم، اتعاملوا باحتراف، نزلوا البلد من ٣ أيام أخدوا تذاكرهم، واستغلوا ظروف السودانيين الغلابة واشتروا منهم تذاكرهم بضعف التمن سوق سودة، ودخلوا بيها فخدوا 60% من الاستاد، والسودانيين نظرًا لضعف إجراءات أمن الاستاد نطوا من الأسوار فعلى ما احنا وصلنا الاستاد بالسلامة، ما لقيناش أماكن والاستاد جوه معظمه جزائرين”.

ملعون هذا (العشم) الذي يجعلنا نسافر من القاهرة إلى السودان ثم نجلس بجوار الاستاد لنتابع المباراة من راديو إحدى السيارات،  بينما تضج أم درمان بهتاف الجزائريين من داخل الاستاد والمقاهي المحيطة به.

كل المقدمات السابقة كانت مهدت الأجواء لمشهد الذروة، الذي كانت هزيمة المنتخب المصري من الجزائري بهدف مقابل لا شيء مجرد بداية له.

فالتنظيم الذي كان سيء قبل المباراة أختفى تمامًا بعدها، وبدى الواقع هزلي للغاية:

الأتوبيسات المخصصة لإعادة المصريين إلى المطار لم تأتِ، وربما لم يتفق معها المنظمون أصلًا لأنهم كانوا يتعشمون في الفوز والسهر والاحتفال.

الشوارع تفيض بالجزائريين الذين يحتفلون بالسلاح الأبيض، أما المصريون الذين لا يعرفون الطرق وليس معهم مرشد فقد انقسموا إلى مجموعات: الفنانون الذين أرعبهم تحرش المشجعين الجزائريين في الشوارع توجهوا إلى مقر السفارة المصرية، الصحفيون وفرق العمل التليفزيوني الذين كنت أنا من بينهم انقسموا إلى مجموعات أصغر استقلت كل واحدة منها سيارة أجرة أو ميكروباص مستقبلة ما قسم لها من حجارة المشجعين او حتى هتافاتهم وشتائمهم البذيئة.

تجربة قاسية عايشتها لما يقرب من ساعتين من السير في الشوارع الجانبية داخل ميكروباص يحتسي سائقه بين الحين والآخر رشفات من زجاجة عرق البلح، ويتحسر على خسارة المصريين، حتى وصلت أخيرًا إلى المطار حيث بدى الوفد المصري مرعوب وكثير من أفراده مصابين بجروح.

وأنا أتابع هذه الحالة المحزنة قلت لزميلي المصور: “إذا كنا قد خسرنا التأهل للمونديال، فليس أقل من أن نكسب تقريرًا جيدًا”، وبدأت في إجراء اللقاءات،

بحثت عن رموز المشجعين أبطال الدرجة الثالثة فلم أجدهم، فسجلت مع طارق علام وريهام سعيد، و محمد فؤاد وغيرهم، وجمعت لقطات للمصابين من الوفد، وللأتوبيسات المحطمة، كل شيء كان يشير إلى عنف المشجعين الجزائريين الذي حولوا المباراة إلى ما يشبه الواقعة الحربية، لكن صوتًا داخليًا كان يحيل كل شئ إلى العشم أو قل إذا شئت الدقة إلى الفشل، الفشل في اختيار نوعية المشجعين، وفي التنظيم، وفي الإدارة.

على كل حال أكملت التقرير، وبينما كنت أسجل ختامه ولسبب لا أعرفه تذكرت العبارة المعلقة على حائط أحد محال الفول والطعمية القريبة من منزلي والتي تقول: “اطلب اللي معاك ثمنه، عم عشم مات الله يرحمه”.