مروى جوهر تكتب: هذا الرجل أحبه (6).. الشيخ محمد رفعت

كُلما سمعت “الله أكبر” فى طفولتي بصوته الرخيم يجلجل فى البيت، أدركت أننا فى شهر رمضان، كان صوته مرتبطًا بالشهر بشكل ما وقتئذ، والآن عندما أسمع صوته العذب فى أى وقت تذكرت تلك الأيام الرمضانية الجميلة، تلك الأيام البسيطة التى تضفى الكثير من المعانى لعمرك، كان صوته المتميز يأتى قبل الأذان بفترة من الوقت، إعلاناً أن وقت الإفطار قد اقترب، الهدوء النفسى الذى يمنحك إياه صوته، أسمعه فلا أملك الاختيار لأتركه أوأبقى منشغلة، لا أجرؤ أن أستبدله بصوت آخر، فقط أترك ما بيدى على درجة أهميته لأصغى إليه فى إنصات شديد، فأنا من أشد المحبين والمتعصبين للأصوات المصرية فى تلاوة القرآن الكريم، وقد أكرمنا الله وأهدانا منهم الكثير على مر عقود، أصوات فريدة لا تقدر بثمن.

نرشح لك: مروى جوهر تكتب: هذا الرجل أحبه (5).. “أبي الحبيب”

لا أعرف لماذا ارتبط صوته بشعائر الشهر الكريم، كما لا أدرى لماذا أحس بالأمان عند سماع تلاوته، يُدركنى ذلك الإحساس العجيب بالأمل وإدراك حقيقة الدنيا فى وقت واحد، فعادةً عند إدراك زوال الدنيا وما فيها يرحل الأمل ولو مؤقتاً، وعند مجئ الأمل لا ترى زوال الدنيا، لكن عند سماع “قيثارة السماء” أستشعر الإحساسين معاً، لا تسألنى كيف يفعل هذا بى؟

يشاء الله أن يُولد ويتوفى الشيخ الجليل “محمد رفعت” فى نفس التاريخ التاسع من مايو بحى المغربلين! ليحفل بحياة مليئة بالتجارب، فيفقد بصره بعمره الثانى، لكنه بقوة الله يحفظ القرآن فى سن الخامسة، ويلتحق بالكُتاب ويدرس علم القراءات والتفسير، لكن يتوفى والده وهو طفل بعمر التاسعة، كان عليه أن يُدرك فى هذه السن الصغيرة أنه قد أصبح العائل الوحيد لأسرته، فلجأ إلى القرآن يعتصم به، لكن سيرته توضح أنه لم يرتزق منه فى ذلك الوقت.

فى سن الخامسة عشر من عمره شرع فى قراءة القرآن الكريم بمسجد فاضل باشا بحى السيدة زينب، وهو نفس المسجد الذى درس فيه فى الخامسة من عمره، فبدأ نجمه فى السطوع ونال محبة الناس، كان الشيخ رحمه الله يتحرى تقوى الله فى كل أفعاله، حتى ما يبدو منها مشروعاً، حتى أنه تحرى جواز إفتتاح بث إذاعة القرآن الكريم من شيخ الأزهر قبل أن يفتتحها سنة 1934.

ويشاء عالم الغيب أن يضعه فى اختباره الأخير والأصعب بأن يُصاب بسرطان فى حنجرته، التى أسعدت الملايين بسماعها، هل يصبر الشيخ ويشكر؟ أم يتأذى؟ يتقبل الشيخ الخبر بنفس راضية مطمئنة لقضاء الله، ويرفض جميع المساعدات لعلاجه من ملوك ورؤساء وكبار الوطن العربى، رغم عدم امتلاكه تكاليف العلاج، بل ظل يردد دائماً “قارئ القرآن لا يهان”.

ورغم أنه رحل عن عالمنا منذ خمسة وسبعون عاماً، إلا أن سيرته العطرة والملهمة ما زالت تعيش وسط عموم المصريين بكل فئاتهم، سيرته التى تحتاج إلى كتاب ضخم يليق به لن أستطيع أسردها كاملة وأوفيه حقه فى بضع سطور، رحم الله شيخنا الجليل وأسكنه فسيح جناته، وجعلنا من الحافظين لتراثه العظيم الذى لا يُقدر بثمن.