محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. رمضان وذكرى الدويقة

جميل شهر رمضان، تتنفس فيه كمراسل الصعداء، فوتيرة الأحداث السياسية والجولات الحكومية تهدأ كثيرا، ومدة برامج التوك شو تتقلص جدا تاركة براح في خريطة القناة لبرامج الطبخ والمقالب والمسلسلات الرمضانية، وسواء أعجبك هذا أم لا فإنه بالنسبة للمراسل التليفزيوني شيء عظيم ليس لأنه معجب بتقسيم خريطة رمضان الإعلامية التي تعطيك انطباع أننا في شهر المسلسلات والطعام وليس في شهر العبادة والصيام، ولكن لأن هذه الخريطة أيها الكريم تقلل متطلبات عمل المراسل وعدد التقارير المطلوبة منه أسبوعيا، ليتحول الشهر الكريم إلى شبه إجازة يجد فيها المراسل فرصة لالتقاط الأنفاس وللاستمتاع بروحانيات الشهر الكريم، وهو ما يعتبره المراسلون جزءا من فضل رمضان.

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. الطريق إلى قصر نخنوخ

كانت هذه الخواطر تجول برأسي ونحن في منتصف اليوم السابع من شهر رمضان لعام 1429 هجريا الموافق 6 سبتمبر 2008 ميلاديا، خواطر ممتعة قطعها صوت الهاتف اللعين الذي عودني دائما أن يكون هادما للذات ومفرق للجماعات لكنني لم أتوقع أن تصل المسألة لهذا الحد..

أنا: الو ازيك يا ريس؟

هو: يا حكيم صخرة الدويقة وقعت وفي ناس ماتت، اتحرك فورا على هناك فريق العمل منتظرك.

عندما وصلت عزبة بخيت بالدويقة كانت حرارة الجو حارقة، لكن هول المشهد كان أشد، جبل المقطم ألقى ببعض صخوره فدكت الناس وهم نيام في منازلهم، قتل في الكارثة 31 شخصا، وأصيب ما يقرب من 50.

في مثل هذه الأحداث يهرع المصور لالتقاط مشاهد انتشال الجثث وصراخ النساء، وبكاء الأطفال، ويتزاحم المراسلون على ممثلوا المحافظة والحكومة الذين يصرحون بأنهم انذروا الأهالي بخطورة الوضع وطالبوهم بإخلاء المنازل منذ شهور، لكنهم رفضوا وتراخوا ورغم ذلك فإن الحكومة لن تتركهم وستوفر لهم خيما للإيواء وستصرف لهم تعويضات مجزية.

نرشح لك: صاحبة الخط الأصلي لـ مذكرات أمينة خليل في ليالي أوجيني

أما أنا فأبحث عند تغطية مثل هذه الأحداث عن زاوية أخرى لمعالجة التقرير، فلا أحب أن يخرج التقرير كأنه نسخة من كل التغطيات الأخرى لباقي القنوات. وبحثا عن هذه الزاوية ابتعدت عن بؤرة الأحداث قليلا أو ربما كثيرا، كنت أبحث عن لقطة جديدة أو مصدر محايد لا هو من المسئولين الذين لا يعنيهم إلا إبعاد تهمة التقصير عن الحكومة، ولا هو من الأهالي الذين لا يشغلهم إلا توجيه التهم والمطالبة بالتعويضات.

وجدتها أخيرا، سيدة سمينة تجلس داخل منزل بابه مفتوح، تنظر له فلا تعرف إن كان هو منزل بني وسط الصخور، أم أنه كهف صخري أحيط بأربعة جدران. السيدة وضعت أمامها “هون نحاسي قديم” به بعض فصوص الثوم وبيد “الهون” كانت تدق الفصوص بغيظ شديد.

أشرت أنا للمصور بأن يصور السيدة، والهون، ثم اقتربت منها وسألتها لماذا أنت هادئة وكأنك غير منزعجة أو غير مصدومة من المشهد؟

هي: ما أنا فعلا مش متفاجأة، ولا مصدومة، شايف الهون ده، أهو هو ده الجبل، واحنا فصوص التوم اللي جواه، من يوم ما سكنت هنا من 35 سنة وأنا عارفه إن في يوم حاصحى من النوم ألاقي الجبل فرمنا زي التوم ده بالظبط، واوعى تسألني ليه ما سبتيش المنطقة ومشيتي علشان أنت أكيد عارف إني لو لاقيت حتة تانية تلمني أنا وعيالي ما كنتش حستناك أنت لما تيجي تقولي.

على قدر ما كانت هذه السيدة عنيفة وغريبة على قدر ما علمتني درسا مهنيا مهما استعيده دائما مع حلول شهر رمضان وذكرى انهيار صخرة الدويقة كل عام، “قليل من البحث عن المصادر، يساوي كثير من العمق في التقرير، فلا تستهل ولا تسير مع التيار”.