كُتاب منسيون: الطاهر أحمد مكي.. الأزهري اليساري الذي لم يجرفه تيار

محمد حسن الصيفي

في مصر ليست هناك قواعد واضحة فيما يخص عالم الكتابة الواسع، وقواعد المسألة هي اللا شئ، الصدفة فيما يبدو تلعب كل الأدوار، لكنها ليست دائمًا سيئة.

نرشح لك – كتاب منسيون: عادل كامل.. أعمال قليلة وأثر كبير

فمن الذي يُخطط لكي يدرس في الأزهر بقريته بمحافظة قنا ثم يذهب بعدها إلى القاهرة للدراسة بكلية دار العلوم ثم ينتقل بخلفيته الأزهرية المعروفة في سنوات الدراسة الجامعية للالتحاق بالحركة الشيوعية الشهيرة “حدتو” ؟

يقول عن هذا الخليط:

لقد دخلت الأزهر حافظًا للقرآن وعلوم اللغة والشعر ونسيت القرآن فيه، لكنني انخرطت في جماعات اليسار في القاهرة التي كان بها على ما أذكر ثماني جماعات منها طبعًا حدتو التي كنت بها، وكانت الجماعات تنظم على أساس الخلايا وكنت عضوًا في خلية مهمة، وكانت بالأزهر حركة يسارية قوية يشرف عليها فاضل المبارك وهو أحد أبناء النوبة، وكنا نهرب من الدراسة التي كانت تتعطل كثيرًا بسبب المظاهرات السياسية إلى المقاهي أو ندوات اليسار

بعد ذلك تخرج من الجامعة عام الثورة 1952 وحصل بعدها على الدكتوراه في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز من الجامعة المركزية بالعاصمة الإسبانية مدريد عام 1961.

نرشح لك – كُتاب منسيون: محمود تيمور.. الأديب الذي وصفه طه حسين بـ “العالمي”

عمل بالجامعة منذ تخرجه وتدرج فيها من مدرسًا مساعدًا إلى مدرسًا فأستاذًا ثم رئيسًا لقسم الدراسات الأدبية ثم وكيلاً للكلية للدراسات العليا والبحوث ..

فهل تتوقف الصدفة عند هذا الحد عند الطاهر أحمد مكي ؟!

فمكي الذي سافر إسبانيا محملاً بعروبته ويساريته أسره الفقيه العالم المسلم ابن حزم هناك فعكف على دراسته في أمهات الكتب فأنتج عنه رصيدًا ضخمًا محققًا ومترجمًا وراصدًا له كظاهرة تحتاج للوقوف عليها بجدية وإخلاص.

والدكتور مكي على مناصبه وعمله بالتدريس طوال حياته لم يثنه ذلك عن مسيرته الإبداعية، وأقول الإبداعية رغم أنه رجل أكاديمي من الدرجة الأولى إلا أنك حين تقرأه تكتشف أنه رجل يكتب بحب وبتطلع واحتراق، رغم أننا نعترف أنه يكتب في ملفاتٍ صعبة متخصصة  .. ملف الدراسات النقدية ودراسات الأدب المقارن .. وهي عمليات مرهقة تطوي بداخلها في كثير من الأحيان اللمسة الإبداعية والصوت الخاص لمن يضرب في أعماقها.

لكن الطاهر عكس ذلك، الطاهر يقنعك وأنت تقرأ له، يمنحك الدواء ولكن بطعمٍ جميل وليس بما يحمله كالعادة من مرارة عند الآخرين.

نرشح لك – كُتّاب منسيون: أحمد زكي.. عاشق الكيمياء والأدب الذي دافع عنه طه حسين

سواء أكان ذلك في دراسة نقدية أو ترجمة أو حتى مقال ستجد أنك أمام كاتب ممتع، فعلى عكس الكثير من الكتب الأكاديمية المتخصصة التي يشملها الكثير من الملل والعبارات المتقعرة النخبوية الخاصة، يأتي كتاب “القصة القصيرة دراسات ومختارات” في طبعة دار المعارف، وهو كنموذج لأعمال الدكتور يعتبر من أروع ما كتب ومن أروع ما أنتجته المكتبة العربية في هذا التخصص، فالكتاب يشمل تاريخ القصة القصيرة ومراحل تطورها ونماذج محلية وعالمية منها.

وهو في صفحاته المائة الأولى التي يستعرض خلالها نشأة القصة القصيرة ستفاجئ أنك تستمتع بذلك العرض التاريخي المشوق وأنك مقبل لقراءته باستمتاع وهدوء وأنك أمام كتابًا منظمًا تنظيمًا هندسي البناء وبدقة وفي غاية الروعة

 

“أحمد المسلماني يتحدث عن الدكتور مكي في عيد ميلاده التسعين”

والدكتور مكي مؤلفاته عديدة ومتنوعة كتب عن امرؤ القيس وبابلو نيرودا الذي قال عنه:

“نيرودا كان شاعرًا عبقريًا وكان يساريًا حتى النخاع، وكتب أفضل قصيدة عن الثائر فيدل كاسترو، ولكن بابلو نيرودا كتب أيضًا بعبقرية في الحب، وأذكر أن كتابي (نيرودا شاعر الحب والنضال) كان أول دراسة في العربية عنه”

وكذلك دراسات عن الشعر العربي والأدب الإسلامي المقارن وغيرهم من الإصدارات الكثير، غير أنه بمناسبة حديثه عن نيرودا واليسار، فمكي الأزهري اليساري كان وسطيًا منطقيًا مجردًا في كتاباته، لا تشعر مطلقًا أنك أمام شخص له ميول يسارية، أو عضوًا هامًا في “حدتو” بل كان دائم الإلتزام والنقد المجرد والعطاء الأدبي والفني الخالص الذي لا تخالجه أهواء ولا تخالطه المصالح.

لقد كانت حياته مليئة بالإنجازات والجوائز والعطاء، ترك إرثًا يتحدث عنه، أنه كان لدينا رجلا عظيما اسمه الطاهر أحمد مكي، كتب فأصاب وسوءل فأجاب ولم يكن يومًا في كشوف الغياب …

توفاه الله في الخامس من إبريل العام الماضي 2017 تاركًا خلفه أعمال لن تنسى.