قصة تنشر لأول مرة لـ يوسف إدريس

نقلًا عن بوابة الأهرام

ما كاد آخرهم يخرج. ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية، حتى التفتت «مصمص» (وهو ليس اسم دلع ولكنه اسمها الحقيقي) إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت عال: ـ بقى اسمعى يا..

نرشح لك: كواليس 30 سنة تصوير لـ مبارك.. من قصر الطاهرة للكعبة المشرفة

واحتارت قليلا هل تقول لها يابت يا سكينة، أم سكينة فقط.. وسكينة كان اسمها سكينة وهى سكينة فعلا. وهو اسم قد يبدو ريفيا ولكنها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح كانت من مدينة ما، واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة مؤدبة جدا خجولة جدا ورقيقة أيضا. وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التى يميل لونها إلى السمرة، ودائما ترتدى قميص نوم أبيض.

والسريران كانا فى عنبر واحد من العنابر الكبيرة التى تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية والصدرية، العنبر المعهود ذو الإثنين والعشرين سريرا.. عنبر الحريم يسمونه.. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكورة كالبطة وتومرجى أعمش مفروض ألا يدخل العنبر وان يقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحدا لم يعلن يوما هذا المفروض وأحدا لم ينفذه.

وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة التى تحس إذا أطلت النظر اليها أو عمقته أن هناك فعلا أناسا ضعفاء محتاجون إلى الشفقة، كانت مريضة بمرض مزمن ولها فى المستشفى ثلاثة أشهر وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج، ولكنهم لا يخرجونها ولا يصرحون لها بالخروج ولا يفعلون هذا بعنف أو بحزم كما قد يعتقد البعض، أنهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحيانا وبهز الرءوس والطبطبة أحيانا أخرى… وأحيانا بمجرد القول: حالا.. إن شاء الله تخرجى.. أما سبب بقائها أو إبقائها فهو أن مرضها من نوع غريب يحلو للأستاذ أن يحاضر طلبته وأطباءه، الصغار عليه.. وأن يريه لزملائه الكبار كما لو كان يريهم قطعة نادرة ضمن مجموعة أصداف أو طوابع بريد يقتنيها..

نرشح لك: نورا مجدي تكتب: أنا أحب حسني مبارك!

وسكينة لم تكن مقطوعة من شجرة.. كان لها إخوة. فى الحقيقة أخ غير شقيق وأختان. كان لها خالات وعمات وقريبات كأى إنسان منا وكل انسان. ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوار بالمرة. طوال الأشهر الثلاثة التى مكثتها بالمستشفى لم يزرها أحد.. من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر، لم تر وجهه. تلك حقيقة تعرفها هى.. ويعرفها الجميع حتى التومرجية السليطة اللسان تعرفها.. ومشكلة الخروج تلح على سكينة فى أحيان كشيء لابد منه ولابد من حدوثه ولابد أن تكلم الطبيب الكبير بشأنه، ولكن مشكلتها الأكثر حدة فى الواقع أن يزورها أحد.. أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد يدا توقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها قومى يا سكينة.. جالك زوار..

طوال أيام الجمع والإثنين والحقيقة طوال أيام الأسبوع يفد العشرات والمئات والآلاف على المستشفى ويوزعون على عنابره ثم على أسرته وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة.. ما عدا سريرها هى لم يكن يهوب ناحيته أحد، أو للدقة كان زوار جاراتها يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها وهى من خجلها لا تعارض أو تأتى بحركة تسبب حرجا لأحد. كانت تغادر الفراش نهائيا وتذهب تتمشى فى الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القذرة، هناك حيث تتخذ مستودعا لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوسفندى الآتى لابد من كل زيارة.

وهناك.. فى تمشيها هذا كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحس أنها مظلومة وانه لابد ثمة خطأ فى الكون جعلها تبقى بغير زوار.. وأن أخاها بإستطاعته أن يخطئ مرة ويزورها وكم زارت هى أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم فى هذه الحالة أن يردوا الزيارة. ماذا حدث حتى جمدت قلوبهم، وقساها؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا ونسوا أنها فى المستشفى، ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقتها وبالدنيا كلها؟ لم تكن تدرى.. حتى مجرد إرسال خطاب.. ما أرسل لها أحد خطابا أو بعث بسلام..

إحساس لم يكن يشاركها فيه أحد.. كان أعمق أعماق قلبها هى التى تكتئب وتحزن فقط.. أما كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائما بإبتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذى تتلفح به..

نرشح لك: ٩٠ عامًا على ميلاد مبارك (ملف خاص)

وطالت المدة ثلاثة أشهر وأربعة وخمسة، والمرضى يتغير معظمهم حتى لم يبق من القدامى سوى جارتها مصمص والوضع على ماهو عليه، وضع عجيب غريب، فهى صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه تريد بشق النفس ان تخرج وتغادره. ولكنها فى نفس الوقت، واذا ما سألت نفسها: لاتعرف ابدا لم وأنى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل… لقد كانت قبل دخولها تحيا مع اخيها تخدمه فى انتظار ان يتزوج هو أو يأتيها هى عريس، ولكنها مرضت وكانت تقضى الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الاخ وانتهز اول فرصة وأدخلها المستشفى ربما كى لاتعالج بقدر ما يتخلص منها ومن حشرجات انفاسها. بل انها سمعت انه بعد دخولها المستشفى تزوج وعزل من البيت…. وشقيقاتها كلهن متزوجات، وهى ليست جميلة حتى يرحب بها زوج أى اخت بل لقد ذبلت وكبرت حتى على الزواج فإلى من تذهب والى اين؟

وضع غريب، فهى ضيقة بالمستشفى ضيقا لاحد له ومستسلمة لهذا الضيق والحياة فى المستشفى استسلام لاحد له ايضا كالسجين الذى يتوق الى الخروج من السجن الى الحياة والحرية ولكنه حين يجد انه اذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك، يستسلم للسجن. يضيق به ويستسلم له ويكاد يجن بين الضغطين.

ولم تأت المسألة فجأة… بل والى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيرا جديا او تدبرت ما فعلت. ولكنها هكذا جاءت…. مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لايقل عدد اقربائهم وانسبائهم واولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأى حال من الاحوال، ولهذا كان لايمر يوم دون ان يزور مصمص لا اقل من خمسة او ستة زوار. ويوم العطلات والاعياد يرتفع الرقم حتى يكاد يصل الى الخمسين… وكان يبدو على مصمص انها فى الوقت الذى تعتب فيه على فلانة الفلانية لانها لم تزرها ما يكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبا وحتى تغمغم ببرطمة لايفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار، والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار اذا قدموا، من هم وماهى درجة قرباهم لها. وماذا يشتغلون ولم يكن الامر مجرد سؤال.. دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالاسم حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائر..

ـ مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللى بيشتغل فى السكة الحديد..

نرشح لك: “سيجار” مبارك.. بين هيكل والببلاوي وقائد الطائرات

فتبهت مصمص وتقول:

ـ الله… وانتى ايه اللى عرفك؟

حينئذ تحس سكينة الناحلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لاحد لها.. غير معقول بالمرة او مقبول فقد اصبحت لمجرد انها عرفت من الزائر وخمنته وجاء تخمينها بالضبط مطابقا للحقيقة.

ولكن هذه السعادة، بالتكرار. لم تعد تحدث ووجدت سكينة نفسها مدفوعة الى خطوة اخرى كى تحس بنفس سعادتها السابقة. فبدأت تقدم مساعدات وتسرع مثلا وتحضر كراسى لزوار مصمص او اذا ارادت الاخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة او الشاى او الكازوزة اسرعت سكينة الى البوفيه.. وتحضر الطلبات بنفسها.. وكانت مصمص تأخذ الامر فى اوله باعتبار انه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر، ولكنها بدأت تعجب فعلا وقد راحت سكينة تقوم باعمال غير معقولة ابدا تأخذ الاطفال من الامهات الزائرات وتداديهم او تذهب بهم الى دورة المياه، وتلعب مع الابناء الكبار وتقول لهذا الزائر.. والنبى وحياتك ابقى سلم لى على فلانة وفلان وكأنهم اقرباؤها هى..

بدأت مصمص تستعجب، مصمص لم تكن سهلة ولا طيبة ولا سكينة ابدا، انها جهنم الحمراء، اذا انفتحت واذا رأت فى الامر مايريب.. وكانت سكينة قد زودتها فى نظرها كثيرا وبشكل اصبح لا تفسير له ولاتبرير، تجلس مع الاقرباء والاصهار طوال الزيارة ولاتغادرهم للحظة وكأنها منهم وعليهم يتحدثون عن ادق امورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولاتبتعد بل اكثر من هذا تهتم بها وتناقشها مناقشة المتحمس الغيور، وتبدى الآراء ايضا… وتنتظر مصمص على آخر من الجمر أن «تحس» سكينة مرة فتقوم او تغادر الفرش او على الاقل تولى انتباهها الى الناحية الاخرى بلا فائدة، اذ كانت سكينة لاتفعل شيئا من هذا ابدا، بل تظل طوال الجلسة بكاملها وبعد الجلسة أيضا تتحدث وتعقب وتحاول أن تدخل مع مصمص فى اخص الشئون وفى «الغويط». ومصمص. تكظم وتكظم.. فصحيح ان سكينة تتدخل ولكنها تفعل هذا وهى راقدة فى نفس فراشها لا تغادره. وبالعكس ان زوارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة وبهذا يعطونها الفرصة للاندماج والتدخل..

بل تطور الامر الى ماهو اكثر وبدأت سكينة تقتنص زائرا او زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط فى حديث لا ينقطع معه او معها بحيث تنتهى الزيارة وهم لم يتبادلوا كلمة واحدة مع قريبتهم مصمص وكأنهم جاءوا لزيارة سكينة اصلا..

ولقد تكرر الامر مرة ومرة ومصمص صابرة تكظم الى ان كان هذا اليوم الذى قررت ان تنفجر فيه. وهكذا ما كاد آخر زائر فى يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كقطار وصل الى محطة النهاية حتى التفتت مصمص الى سكينة التفاتة حادة.. وقالت بصوت بالغ العلو..

نرشح لك: زينة متهمة في جريمتي قتل في رمضان 2018

ـ بقى اسمعى يا..

واحتارت قليلا.. انقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرة واحدة وتقول يابت ياسكينة، ام تكتفى بنهرها وتقول يا سكينة فقط، فاذا قالت لها ياسكينة فكيف تستطيع ان تصب عليها بهذه البداية ما يتفجر به صدرها الضخم العالى الاسمر من غضب وضيق، احتارت مصمص وكالبندقية صوبت عينيها الى سكينة وكأنما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف انفجارها.. كانت قد قررت ان توقفها عند حدها وان تنذرها بانها اذا استمرت فى اقتناص زائر او اكثر من زوارها هكذا فسوف تمرمط الارض بزوارها… زوار سكينة اذا جاءوا والعين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم..

صوبت مصمص عينيها الى سكينة لتجدها راقدة فى سريرها نصف مغطاة الجسد تحملق امامها كمن يجتر ذكرى ذكرى، لحظة سعيدة مرت.. وفجأة اكتشفت مصمص الجهنمية ان تهديدها الذى يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرة… اجل هكذا. فى ومضة مفاجئة اكتشفت مصمص ان سكينة لا يأتيها زوار ولاينتظر ان يأتيها احد.. وهكذا بعد ان كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدارتها وقالت بقى اسمعى يا..

وحين التفتت سكينة بدهشة ونوع من الذعر تسأل: نعم ياست مصمص.. لم تغير مصمص رقدتها ولا رفعت عينيها عن وجه سكينة.. كل ما فى الامر ان صوتها انخفض حتى كان لايسمع..

وقالت:

ـ لاه.. ولاحاجة.. ده كلمة كده وعدت..

قالت هذا وهى ترمق الفتاة بعينين مشتتين فوق وجهها، ويكاد تفر منهما الدمع..

وظلت مثبتة عينيها فوق وجه سكينة لاترفعهما وكأنها تراها لاول مرة… رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرة.