محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. العقار المسكون!!

في كل مرة تقع عيني عليها، كانت تثير في رأسي الكثير من الأسئلة! فكيف يعقل في منطقة كهذه يتسارع فيها الناس على شراء الشقق واستئجارها بأي ثمن أن تظل عمارة مطلة على الشارع الرئيسي كاملة التشطيب دون أن يسكنها أي شخص لأكثر من خمسة أعوام؟!

إذا كان مالكها مثلا لا يريد البيع أو التأجير، فلماذا لم يقيم هو فيها؟ وإذا كان لديه سكن أفضل فلماذا تحمل نفقات البناء والتشطيب لطوابق العمارة الست، ليتركها في نهاية الأمر كالخرابة؟

نرشح لك.. محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. المرشح المشاغب بالانتخابات النيابية

بينما كانت هذه الأسئلة تنهش في رأسي كالثعابين، توقفت بسيارتي فجأة بمواجهة العمارة وقررت أن أقطع رؤوسها جميعا، ومباشرة توجهت إلى صاحب كشك حلويات وسجائر مواجه للعمارة، وقدمت له نفسي باعتباري أبحث عن سكن في المنطقة.

صاحب الكشك: أنا ما اعرفش حاجة عن صاحب العمارة، أنا فاتح الكشك من حوالي أربع سنين ومن ساعتها ما شفتوش جه العمارة ولا مرة.

أنا: بس دي شكلها مبنية من كذا سنة وانا مش شايف ولا دور فيها ساكن، هي “اعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، مسكونة ولا حاجة؟

صاحب الكشك: الصراحة في ناس بتقول كده، بس أنا ما شوفتش حاجة بعيني، لكن من حوالي سنة ونص في أربع شباب أفارقة سكنوا فيها يجي أسبوعين وبعدين اتخانقوا مع بعض في يوم بالليل ورموا العفش من البلكونة والشبابيك وتاني يوم اختفوا. ومن ساعتها والعمارة فاضية، والكلام كتير، بس لو انت عاوز رقم صاحب العمارة فاحتمال تلاقيه مع عم صبحي بواب العمارة اللي هناك دي لأنه شغال هنا من زمان وعارف كل الناس.

نرشح لك  – محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حوار مع حضرة المجذوب

أنا: السلام عليكم يا عم صبحي، أنا بدور على سكن هنا والعمارة دي عجبتني وقالوا لي إنت أقدم حد هنا، ومعاك رقم صاحبها، بس قولي الأول بالله عليك هو صحيح هي مسكونة؟

صبحي البواب: الله أعلم، أنا ما شوفتش حاجة، والناس كلامها كتير، بيقولوا صاحبها كان جي من الخليج وفرحان أنه هيبنيها قوي، ولما العمال جم يرموا الصبة بتاعة الأساس، جاب هو ألف جنية فضة ورماها في أساسات البيت، علشان تبقى بيت عز، وده خلى الجن يسكنها، بس ده كله كلام وربك اعلم.

عدت إلى سيارتي وقد تحولت ثعابين رأسي إلى كلاب مفترسة، تلح علي بعمل تقرير تليفزيوني عن هذا الموضوع، بكل تأكيد سيكون تقريرا ناجحا ومثيرا جدا. اتصلت تليفونيا بابن صاحب العمارة الذي أعطاني رقمه عم صبحي البواب، لكنه رفض فكرة عمل تقرير وقال لي أن كل ما يقال عن العمارة كلام فارغ لا أساس له من الصحة، فوالده لم يسافر الخليج أصلا، ولم يرمي أي نقود في أساسات العمارة، الحكاية كلها أن هناك خلافا بين محدثي وأشقائه على تقسيم ميراث والدهم وهو ما جعل العمارة غير مسكونة.

نرشح لك.. محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. المولد ومريدو الست زينب

كلام ابن صاحب العمارة لم يفاجئني فأنا لم أنتظر منه أن يعترف بأن عمارتهم مسكونة بالعفاريت، وإذا كان تفسيره لعدم سكنة العمارة الآن منطقي فلماذا لم تؤجر أو تباع قبل وفاة والده؟

المشكلة كانت عندي في كيفية إعداد التقرير بعد رفض ابن صاحب العمارة التسجيل أو السماح لنا بدخولها، فكلام الجيران، ولقطات العمارة من الخارج وحدها لن تخرج التقرير في الصورة المثالية له.

بعد حوالي ثلاث ساعات كنت أمام العمارة ومعي فريق العمل بعدما كانت فكرة صناعة التقرير قد اكتملت في رأسي. سجلت لقاءات الجيران ولقطات للعمارة من الخارج بكاميرا التسجيل العادية، ثم ثبَّت كاميرا خفية من التيشيرت الخاص بي وقررت أن أتسلل للعمارة.

سأتسلق السور الخارجي المحيط بالعمارة، وأقفز داخلها وألتقط بالكاميرا السحرية فيديو لمدخلها وللجنينة الخارجية خلال دقائق ثم أعاود الخروج. ستكون هذه اللقطات السحرية إضافة قوية لعنصر الإثارة في التقرير، وستكمل نقص المادة المصورة فيه.

نرشح لك – محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. المساواة في “الضرب بالحزام” عدل!!

توكلت على الله، تسلقت السور، وزني ليس مثاليا صحيح، لكن الدافع الصحفي، وارتفاع السور المتوسط ساعدني على إنجاز المهمة بسهولة. بعدما وصلت لقمة السور لمحت في مدخل العمارة قطة، لكنها ليست قطة عادية فحجمها كبير جدا، ولونها أسود داكن، ولكل عين فيها لون مختلف، واحدة بنية فاتحة اللون، والثانية أقرب للون الليمون.

القطة نظرت لي شزرا كأنها كانت تحذرني من النزول، ترددت قليلا ثم نظرت جهة فريق العمل الذي كان ينتظرني في سيارة القناة، ويرصد بالكاميرا العادية لقطة واسعة للمشهد، عاودت النظر لمدخل العمارة مرة أخرى قبل النزول فصدمني المنظر.

القطة تحولت لكلب، له نفس الحجم ونفس لون العيون، هل كانت القطة كلبا منذ البداية والموقف هو الذي جعلني أظنها قطة أم أن شيئا آخر يحدث؟. وسط هذا المشهد الذي لا ينقصه التوتر، برز في ذهني سؤال: هل يحق للمراسل الصحفي أصلا أن يخترق خصوصية الناس ويدخل حرم ممتلكاتهم الشخصية دون تصريح منهم، طلبا لسبق صحفي أو حتى بحثا عن الحقيقة؟

الإجابة طبعا لا؛ ليس مسموحا لنا أن نخترق خصوصيات البشر دون قبولهم إذا لم يكن ما نبحث عنه من معلومات سيحقق للمجتمع فائدة كبيرة أو يمنع عنه ضررا بالغا.

حقيقة أرحتني كثيرا ربما لأنها نبعت من شعور مهني مستقر داخلي، وربما لأن الكلب الموجود في مدخل العمارة كان قد تحول مرة أخرى إلى قطة.