نورا علي تكتب: حذاء فيلليني

نحتاج وقتًا ووقفةً طويلةً للإجابة عن؛ لماذا حذاء ؟ ولماذا فيلليني ؟!

بدأ الروائي المصري العبقري وحيد الطويلة؛ بعنوان ساخر ساحر لافت مختلف مُربك للقارئ الغير عادي، نعم هو مُربك حد الدهشة والإقناع، فمن هو فيلليني ؟!

فيلليني؛ هذا المبدع العالمي والسينمائي والمسرحي والكاتب والصحفي والرسّام الكاريكاتيري ذو البصمة الخالدة في الأدب الساخر، ارتبط اسمه بالكوموديا المأساوية وانتقاد الثغرات بالتعسف والاحتقار اللادع الصريح المباشر والغير مباشر..

ربما فيلليني بطلنا لم يكن على مقاييس فيلليني المخرج الإيطالي الشهير تمامًا لكن المعاناة في كل أقطاب الأرض قاطبة هي معاناة بوجهٍ واحدٍ وصوتٍ واحدٍ حبيس الألم والضعف لذا لم يضع الكاتب ( وحيد) الإهداء جزافًا وعبثًا فترك فسحةً تمتد على أقطار الوجع خارج نطاق الزمان والمكان بامتداد السطر الذي اختصر مضامين متراكمة لسيكلوجية الظلم بكل درجاته وأساليبهِ السهلة والصعبة العصيّة العصيبة أيضًا ؛

” اسحب ذيلًا قصيرًا، فقد تجد في نهايتهِ فيلًا”

في حذاء فيلليني؛ تَناول ساخر للحدث واسقاط سياسي اجتماعي برجوازي رومانتيك عبر أبطال ملامحهم تختفي في ملامح الكاتب والقارئ أيضًا لذا كان السرد صعبًا مرهقًا رغم سلاسة اللغة وسهولة مفرداتها وتجردّها من التكلّف والتصنّع ببلاغةٍ واعيةٍ منفردةٍ تكاد تكون الأقرب للاكتمال لجمالياتها التي ترغمنا على التمعن واستحضار العظماء ؛

كجوزيه ساراماغو: إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نفعل مابوسعنا كي لا نعيش كالحيوانات تمامًا.

ومقولة؛ هرمان هسة: لم تصبح الجنة جنة إلا بعد أن طردنا منها.

ومقولة؛ جان بول سارتر: الآخرون هم الجحيم.

والكثير من العظماء المبدعين كنجيب محفوظ وكافكا ونيتشه.

هذه الرواية المتوسطة الحجم عبر الثلاثة عشر فصلًا تناولت قضايا التعذيب الملموس والمحسوس ، المباشر واللّا مباشر المتراكم في صوت الضمير المتكلم الصامت مما برهن على تفرّدهِ في عبقرية السرد الانتقالي بين الضمائر وترك علامات الاستفهام كسهامٍ ثاقبة قاطبة للقارئ كي يُبحر في خيالاته لإتمام الصورة بألف صورة.

ويُعد هذا السرد من مناهج الواقعية الاشتراكية التي أسسها مكسيم غوركي ؛ الأديب والناشط السياسي الماركسي الروسي، مؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية التي تجسد النظرة الماركسية للأدب حيث يرى أن الأدب مبني على النشاط الاقتصادي في نشأته ونموه وتطوره، وأنه يؤثر في المجتمع بقوته الخاصة، لذلك ينبغي توظيفه في خدمة المجتمع.

يقول الروائي القدير وحيد : ” لم يكن غيري، لم يكن غيره، يسألني عن غرفتي، أسأله عن غرفته، يريد أن يدخل عندي، أريد أن أدخل عنده، أخيرا وقعت القرعة على رأسي ”

مداعبات للسرد بسخرية تواري كم الوجع عبر الضمير المتكلم.

ويقول أيضًا: “هل جربت ذلك عزيزي القارئ؟ عزيزتي القارئة أنا أعفيك من هذا المشهد، فأنا رجل أحب النساء ولا أتخيل مجرد وجودهن في هذا المأزق رغم أنه يحدث كل يوم.

هل جربت أن تنظر في كل الاتجاهات فلا تجد إلا اتجاها واحدا وسهما واحدا؟

هل جربت طعم أن تجد جلادك الآن بين يديك، يدخل مريضاً لعيادتك وهو لا يعرف أنك تعرفه؟”

وكذا يقول :” عذِّبه بتأوُّهاتها، بصراخها الأبيض.

وهو يصرخ في وجهي وأنا معصوب العينين:

هل تعرف فيلليني؟

السيد فيلليني..

لم أكمل سوى بصفعة.”

ويقول: ” هل تعرف عزيزي القارئ حين يحضرونك للاستجواب ولا يفعلون بك شيئاً سوى أن يتركوك فجأة في غرفة الضابط ثم تصلك معزوفة الصراخ الأبدي وأنت مقرفص على ركبتيك من الأساس ورأسك منحنٍ للأسفل فيدخل عظمك في بعضه البعض وحده قبل أن يدخلوه هم، لتصبح عجينة طيعة لينة يمكن حينها أن تعترف بسرقة حذاء بابا الفاتيكان دون أن يسألك أحد، ستذهب يوماً إلى قبرك عارياً، بكفنك فقط وصراخ الآخرين، لا بد أن العدل في السماء يقتضي ألا يسمع أهل الجنة صراخ أهل النار وإلا اسودَّت عيشتهم.”

من هذه المقاطع نتساءل : كيف ينتقل الروائي بحرفية عالية دون فصلنا عن ضمير البطل في استخدام ضميرهُ حتى لا تختلط علينا الصيغة من مطاع ٢١ مرة / مطيع ١٢ مرة / مأمون ٢٧ مرة / فيلليني٥٥مرة / الجلاد ٣٠ مرة/ الجارة ٣١ مرة/ الزوجة ٢٨ مرة ……

فلا بطولة مطلقة إلا للصراع على كينونة العذاب وديمومته بين الحوارات الخاطفة البارقة القصيرة جدا دون تحريك الحدث كي نصل في نهاية المطاف إلى ؛

سبب وصول الهر ؛ عندما يقول : أمد يدي، مبتلَّة مرتعشة، منذ خرجت من القبو لم ألمس زرا كهربيا أو أي شيء له علاقة بالكهرباء، يجب أن أنتصر على نفسي، إذا كنت أريد أن أمحو الماضي فلأضغط على الأزرار، يجب أن تفعل يا مطاع ليختفي مطيع.

أمسكت الباب بيدٍ، أغمضت عيني، خبَّأت أصابعي داخل كم معطفي وضغطت بسرعة باليد الأخرى، انطفأ النور ولاح نور في قلبي، لا أعرف كيف أقفلت الباب، لكنني سمعت صوت ارتطامه وارتطام جسدي فوق جسد جارتي على السلالم.

على الأرجح، هذا ما حدث!

لكن هل يختفي مطيع ؟؟؟

يستخدم الروائي وحيد العديد من التساؤلات الساخرة كي يترك لنا مطيع على هاوية الوجود دون وجود.

ويبدو جليًا للقارئ التحفظ السائد عند مشاهد الرومانتيك وعدم التوغل والافصاح الخادش فيها رغم الافراط بالتصاوير والتوريات البِكر من نوعها.

إلا أن ؛ التنوين بالفتح لابد من وضعه على الحرف المنون لا على المد.