محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. حوار مع حضرة المجذوب

 

كثيرًا كنت أقابله في طريقي إلى العمل، مظهره لا يختلف عن عشرات المجاذيب أو المجانين الذين تراهم في كل مكان، يرتدي بنطلون متهالك، وبلوفر شتوي شديد الاتساخ، وهو طبعًا لا يعترف بتغير الفصول؛ فملابسه الشتوية هي جزء منه لا يمكن تغيره لمجرد ارتفاع درجة الحرارة في الصيف، فهو ثابت لا يتغير ولا يتبّدل، يختفي كثيرًا ثم يعاود الظهور بنفس الهيئة التي لا تثير الاهتمام لمعظم المارة، لكنني ولسبب لا أعرفه حتى الآن كنت أشعر أنه أكثر من مجرد مجذوب أو مشرّد عادي، ربما لأنني استمعت بتركيز إلى العبارات التي يكررها هو لكل من يمر بالقرب منه، ووجدتها مزيجًا من ثلاث لغات: العربية والإنجليزية والفرنسية، ينطقها المجذوب بلكنة متقنة عجزت أنا عن امتلاكها رغم سنوات الدراسة وكورسات الكونفرزيشن، أوربما لأنني كنت أشعر أن بعض هذه العبارات غير المقصودة هي رسائل مشفرة لي أنا تحديدًا.

نرشح لك : أزمات النشر في مصر.. هل يتحملها الكاتب أم الناشر وحده؟!

عندما التقيته منذ شهرين وأنا في طريقي إلى مقابلة لوظيفة جديدة وسمعته يردد “ما تصدقهاش، دي مش بتضحكلك دي بتضحك عليك يا أهبل”، تأثرت بعبارته هذه وأعدت النظر في عرض العمل ورفضته، ثم اكتشفت بعد أسابيع أنني كنت سأخسر كثيرًا لو قبلت هذا العرض.

لا  أعرف لماذا تذكرت هذا المجذوب فجأة، وأنا في الاجتماع الشهري للمراسلين مع مسؤلي التقارير بالقناة، كان المعد المسؤول عن التقارير يقول “إننا نعيش فترة ركود خبري”، وهو ما يعني أن التقارير الخبرية قليلة وغير جاذبة للمشاهد، ولذلك علينا أن نفكّر في قصص إنسانية “فيتشر” نقدمها للمشاهدين كبديل للقصص الخبرية الشحيحة.

بالإتفاق مع فريق العمل أوقفنا سيارة الكرو بمواجهة المكان الذي يجلس فيه المجذوب، وضبط المصور الكاميرا بحيث تلتقط له صورة واضحة عبر نافذة السيارة دون أن تلفت نظره- فرؤية الكاميرا ومعدات التصوير تخل بتوازن أصحاب العقول الراسخة، فما بالك بمن لا يملك عقلًا أصلًا- ووضعت أنا ميكروفون صغير في ملابسي “نيك ميك”، وتوجّهتُ إلى المجذوب وجلست بجواره، وبدأت أتجاذب معه أطراف الحديث.

“الدنيا زي الحريم ما لهاش أمان، أنا حمار، أنا إيه قول ورايا أنا حمار، بعتلها كل اللي معايا، كل حاجة بعتهالها، I am a donkey, repeat after me ، ضحكت علي وخدت كل حاجة، انت بتبصلي كده ليه فاكر نفسك بتفهم، كلنا حمير، قوم قوم من جنبي، خلاص أنا حقوم”. رحل المجذوب لكنه علّمني درسًا جديدًا، مهما اختلفت المظاهر وتبدلت ففي عمق ما يتشابه البشر، الأغنياء والفقراء، المفكرون والمجاذيب، ولكي تكون صحفي ناجح عليك أن تنفذ إلى هذا العمق، هناك حيث تختفي المظاهر وتطفوا الإنسانية، وقتها ستكتشف الناس ستصنع قصة إنسانية ناجحة والأهم أنك ستكتشف ذاتك.