محمد حمدي سلطان يكتب: أسطورة أحمد خالد توفيق

كان اكتشافى لسلاسل روايات مصرية للجيب، الحدث الأهم والأبرز فى فترة نهاية التسعينات، وتحديدًا في العام 1997. وبالطبع كأغلب قراء هذه السلاسل بدأت رحلتى مع قراءتها من خلال أعمال الدكتور نبيل فاروق وسلسلتى “رجل المستحيل” و”ملف المستقبل”. لم أجد نفسى فى عالم أدهم صبرى ولم تستهوِنى كثيرًا مغامراته في عالم الجاسوسية رغم حرصى على قراءتها بشكل شبه منتظم بحكم العادة. أما هوسى الأكبر فكان “ملف المستقبل” والرائد نور وفريقه؛ سلسلة الخيال العلمى الأشهر، والتى تقريبًا لم أفوت منها عددًا واحدًا دون قراءته. في صيف 98، أذكر جيدًا عندما أهدانى صديق عددًا من سلسلة “ما وراء الطبيعة”، وتحديدًا العدد رقم 5 “أسطورة الموتى الأحياء”. أذكر ذلك جيدًا؛ طلب منى قراءتها وهو يثنى عليها بشدة مؤكدًا أن هذا المؤلف الجديد يكتب أفضل من نبيل فاروق. هنا شعرت بالغضب، وكأنها إهانة شخصية، من يكون هذا الذى يكتب أفضل من نبيل فاروق؟ لا يوجد أحد في العالم يكتب أفضل من نبيل فاروق، وكنت صادقًا جدًا، ومحقًا تمامًا في هذا الرأى. ببساطة لأننى لم أكن أقرأ وقتها سوى لنبيل فاروق، فكان العالم يبدأ وينتهى عنده.

أخذت القصة من صديقي لأقرأها وأنا فى هذه الحالة من التربص ولدى حكم مسبق بأنها بالتأكيد سيئة. ثم كانت الصدمة أكبر بعد قراءتها، ما هذا التهريج؟ كيف يكون البطل رجلاً عجوزًا ومريضًا هكذا مثل رفعت اسماعيل؟ وما هذه الطريقة الغريبة التى يكتب بها؟ وكيف لقصة يفترض أن تكون مرعبة أن تحفل بكل هذه السخرية اللاذعة؟ لم أفهم شيئًا. أعدت القصة لصديقي وأنا أنتقد ذوقه السيئ، ثم عدت أدراجى مخلصًا لقراءة أعمال كاتبى المفضل، وأبطاله الخارقين والشباب، مفتولى العضلات وشديدى الوسامة.

نرشح لك – المقال الذي تحدث فيه أحمد خالد توفيق عن وفاته

بعد ذلك بنحو عامين، بعد أن كبرت ونضجت قليلاً، وبعد أن استنفدت هذه السلاسل أغراضها، وانتهيت منها أو انتهت هى منى، وكبرت بداخلى الرغبة في تجربة شىء مختلف، لم أجد أمامى في هذه اللحظة -وهذا من حسن حظى بالطبع- سوى أعمال أحمد خالد توفيق وسلاسل رواياته للجيب “ما وراء الطبيعة – فانتازيا – سافاري”. لا أبالغ لو قلت أننى بدءًا من هذه اللحظة تحولت لشخص آخر يعيد اكتشاف العالم من جديد. السخرية التى لم أفهمها أصبحت هى أجمل ما في أعمال أحمد خالد توفيق؛ رفعت اسماعيل الذى لم أتقبله أصبح هو بطلى المفضل وصديقى المقرب على مدى سنوات طويلة، الطريقة الغير مألوفة التى يكتب بها تحولت لأحد دروايشها المفتونين بها وظل تأثريها بداخلى عندما بدأت أكتب بعد ذلك بسنوات.

ولم يتوقف الأمر عند حدود الكتابة والإبداع، فأحمد خالد توفيق وحتى آخر يوم في حياته، لم يخذل هذا الجيل أبدًا، ظل معنا على نفس الوتيرة، مدافعًا عن قضايانا، وخير معبرٍ عن وجهة نظرنا ورأينا في كل ما يحدث. بالتأكيد كان يعلم جيدًا أن كل كنوز الدنيا لا تساوى شيئًا أمام محبتنا له واحترامنا لقلمه، فظل حريصًا أشد الحرص على أن تبقى صورته في نظرنا لا تشوبها شائبة.

نرشح لك – أبرز 20 كتاب لـ أحمد خالد توفيق 

ما زلت لا أصدق خبر رحيله الصادم، فكم كان قريبًا منا؛ إحدى ثوابت حياتنا. كيف تتركنا وترحل بهذه البساطة؟ جزء كبير من ذاكرة وذكريات ملايين من محبيه سيبقى للأبد محفورًا باسمه. منذ يومين فقط نشر الكاتب إبراهيم عادل على جروب “القراء المحترفين”،  “لينك” لحلقة من برنامج “وصفوا لى الصبر” لأستاذنا الكبير عمر طاهر والتى استضاف فيها أحمد خالد توفيق، وأُذيعت يوم الجمعة الماضى. كتب أحد أعضاء الجروب تعليقًا يستنكر؛ كيف لعمر طاهر أن يستضيف أحمد خالد توفيق ليتحدث عن الكتابة السيئة وهو نفسه كاتب سيئ -على حد زعمه- وتسبب في إفساد ذوق أكثر من جيل؟. لم أتحمل هذا الكلام ورددت مدافعًا عن الأستاذ، ونافيًا لهذه التهمة الظالمة، فكيف لهذا الرجل الذى عرفنا عن طريقه أسماء مثل ديستوفيسكي وكافكا وإدجار ألان بو وأوسكار وايلد وآخرين غيرهم، كيف يُتهم بإفساد ذوقنا وهو كان أشد حرصًا على العكس؟ ليس ذنبه بالتأكيد أن بساطة أسلوبه أغرت الكثيرين بمحاولة تقليده، وليس ذنبه أن الكتابة تحولت “لموضة” بعد ثورة يناير.

لم يخطر ببالى وأنا أكتب هذا الكلام أنها ستكون المرة الأخيرة التى سآتى فيها على ذكر اسم أحمد خالد توفيق وهو حى يُرزق، وأنه سيفاجؤنا برحيله عن عالمنا بعد ساعات قليلة. هكذا في هدوء وصمت رحل صاحب الأساطير، ليلحلق بصديقه وبطله الأثير رفعت إسماعيل في جانب النجوم. توقف القلم غزير الإنتاج عن كتابة الأساطير، ولكن عزاءنا الوحيد أن كل ما كتبه سيبقى تأثيره لأجيال قادمة، ليؤكد على صدق أسطورة واحدة حقيقية، عاشت ومرت من هنا.. أسطورة أحمد خالد توفيق.