مصطفى عبد ربه يكتب: "هوم دليفري".. سوف تحملنا الريح !

مصطفى عبد ربه

 

مريم عزيز طالبة الإعلام بالجامعة الأمريكية، اختارت أن يكون مشروع تخرجها فيلما وثائقيًا عن شباب (الهوم دليفري) في مصر. تلك الفئة التي لم يلتفت إليها أحد من قبل، ومن خلال اللقاءات التي أجرتها مريم، سوف نتعرف على (شباب الفيسبا) وتفاصيل حياتهم، وعملهم، وعن مخاطر المهنة -وهي كثيرة- وعن أحلامهم، وطموحاتهم المجهضة غالبًا.

أول من سنتعرف إليه هو سالم المنوفي، الضخم، الذي يحمل قلبًا طيبًا على عكس مظهره الشرس. سالم اضطر إلى هذه المهنة مثل أغلبية العاملين فيها، وقامت بينه وبين الفيسبا علاقة محبة وصداقة، فهو يعامل الفيسبا برقة، فهي (إيده ورجله) أي يعتمد عليها في كل شيء، وبدونها يتعطل عمله تمامًا.

هذه الحوارات بين مريم عزيز وبين (طيارين الدليفري) تُرينا وجهة نظرهم في العملاء، أي نحن. فجميعنا نتعامل معهم، فمن منا لم يطلب طعامًا أو دواءً؟ شهاداتهم تلفت أنظارنا إلى أنهم بشر، يرفضون الإهانة، ولا يجوز التعامل معهم بتعالٍ. هذا ما جعل أشرف زكريا -بطل إحدى الحكايات- يمتنع نهائيًا عن العودة إلى هذه المهنة.

يقول أشرف: إن مدير المطعم لا يهتم سوى بالعميل، ودائمًا يرفع شعار [الزبون دائما على حق] ما يجعل (الدليفري بوي) بلا أي كرامة.

مدير أحد المطاعم عنّف أشرف لأنه رفض أن يشتري علبة سجائر للعميل. غضب العميل ورفض أن يأخذ الطعام، وحكى ما حدث للمدير في الهاتف. قال أشرف إنه لا يتحمل الإهانات أبدًا، ولا يسعى خلف البقشيش أو (التيبس) مثل الجميع. لأن أغلب العملاء يثورون لأسباب تافهة، ويطلبون أشياء تسيء إلى الديليفري بوي. فقد أهانه عميل لأنه تأخر دقائق قليلة، فشتمه، وأغلق الباب في وجهه، وطبعًا رفض أن يأخذ الطعام، فما كان من أشرف إلا أن امتنع عن العمل نهائيًا.

ومن خلال حكايات (الطيارين) سوف نتعرف على قواعد هامة تفرضها المهنة. أولها أن العميل أو الزبون لن يقتنع بأي أسباب للتأخير، لن تنفع أعذار مثل الزحام وأعطال الفيسبا، ولابد للدليفري بوي أن يرسم على وجهه دائمة ابتسامة واسعة مهما كانت حالته النفسية.

من أجمل ما في الكتاب أنه يعرض وجهات نظر مختلفة بحيادية. سوف نقرأ ما حدث لمحمد صبري، الذي قال إنه اتهم ظلمًا بالتحرش بفتاة صغيرة، أثناء توصيله الطعام لمنزلها، وعند سؤال رئيسته في العمل قالت إن هذه المرة لم تكن المرة الأولى، فقد فعلها من قبل.

كذلك حكاية ياسر غريب الملتحي، الذي يرفض العمل مع النساء والمسيحيين، وعند سؤال رئيسته في العمل -وهي مسيحية بالمناسبة- قالت إنه يتعمد دائمًا أن يذكر أمامها عذاب أهل جهنم. وسنعرف أن ياسر يرفض الاختلاف، مثل حال أغلبية المصريين الآن للأسف.

عرضت مريم رأي ضياء عبد الغفار (مدير أحد المطاعم) في عمال الديليفري، فقال إنهم جميعًا خبثاء، يزوّرون كوبونات البنزين، وفواتير الصيانة، ودائمًا يختلقون الأسباب للتأخير، كلهم يكذبون. وأضاف إن قليل من الشدة لن يضرّ، وإلا أفلت الزمام.

من جانب آخر، عرضتْ رأي الأسطى نبيل (صاحب ورشة تصليح موتوسيكلات) ويتعامل معه كثير من عمال الدليفري. قال نبيل إنه يحبهم لأنهم غلابة، ومجبورون على العمل وسط الزحام، في مهنة خطرة، قد يموت أحدهم في حادث، أو يصاب بعاهة مستديمة، وحينها لن يدفع له صاحب المطعم أي تعويض. الأسطى نبيل يدعم الكثيرين منهم ماديًا، ولا يرد سائلًا أبدًا.

ومن هذه الآراء المتعارضة، سندرك أن مهنة (طيار الدليفري) فيها الصالح المكافح، والطالح، مثل أي مهنة أخرى. ونعرف أن ذكاء مريم واحترافيتها في عرضها لكل الآراء، ووجهات النظر بحيادية تامة، ونقلها للحقيقة دون أي تدخل منها.

كتاب (هوم دليفري) هو أحدث كتابات الصحفي المصري الشاب مصطفى فتحي. من البداية سوف نلاحظ اختلاف فكرة الكتاب، في الالتفات إلى فئة من العاملين، فرضتها الظروف على الشارع المصري، وأصبحت غاية في الأهمية، ويتعامل معها الجميع بشكل شبه يومي.

الكاتب استفاد من إمكانيات التحقيق الصحفي في رصد الواقع وتوثيق الشهادات، وظهرت قدرته على كتابة مشاهد مرئية بوضوح عالٍ. والاهتمام بتفاصيل المُتحدث، بطل الحكاية، والتركيز على لغة الجسد [حوار محمد صبري مثلًا] الإيماءات، وحركات الأيدي، كأنها تعبر عن كلام لم يستطع بطل الحكاية أن يقوله.

وبذكاء شديد دمج الكاتب تفاصيل حياة مريم عزيز، بتفاصيل الأبطال وحكاياتهم، لكسر والملل، وحتى يظهر للقارئ الفرق الكبير بين عالم مريم الهادئ، الرقيق، وبين عالم (الدليفري بوي) الذكوري، الخشن، المليء بالأخطار.

وفي نهاية الكتاب، وبعد أن نجحت مريم عزيز في إنهاء مشروعها، نقرأ القصيدة الرائعة للشاعر سامح خيري، التي لخصت كل الكتاب، في كلمات قليلة قوية.

لا أعرف لماذا تذكرت مشهد نهاية الفيلم الرائع (سوف تحملنا الريح) للمخرج الإيراني العظيم عباس كياروستامي، حيث كان البطل يركب الموتوسيكل خلف رجل عجوز، ويسيران وسط حقول القمح الشاسعة.

ورغم الفارق الهائل بين عالم الفيلم الذي تم تصويره في ريف إيران، وأبطاله الذين كانوا يتكلمون شعرًا، وبين عالم شباب الديليفري، حيث زحام شوارع القاهرة المُربك الرهيب، إلا أن تفاصيل الإنسان البسيطة، وحكايات البشر الحقيقيين هي الجوهر والقاسم المشترك، وهي ما يمنح الفن جماله وسحره.

مصطفى عبد ربه: شاعر وروائي مصري، صدر له ديوان (إذا مسنا الغيم) وفاز بمنحة مؤسسة أفاق للثقافة والفنون عن رواية (بيوت عارية) وصدرت عن دار العين، شارك في ترجمة كتاب (لماذا نكتب؟) أول إصدارات مشروع [تكوين] والصادر عن الدار العربية للعلوم، وله تحت الطبع رواية (صلاة اليمامة) تصدر قريبا عن دار الكتب خان.