جميلة بو حيرد.. المناضلة التي استفزت ضحكتها الاستعمار

أسماء شكري

 

فتاة تهوى تصميم الأزياء، ماهرة في ركوب الخيل، مارست الرقص الكلاسيكي، وفي نفس الوقت تزرع القنابل وتحمل السلاح وتتزعم المظاهرات وتردد الهتافات المناهضة للاستعمار، مما يجعلك تتساءل لأول وهلة: ما سر هذا التناقض؟! والذي يزول بمجرد أن تعرف أنها جميلة بو حيرد.

طفولة ثائرة

 

وُلدت “جميلة” عام 1935 في حي القَصَبَة بالجزائر العاصمة، بعد مرور قرن وخمس سنوات على بداية الإحتلال الفرنسي للجزائر في عام 1830، في أسرة بسيطة لأب جزائري مثقف وأم تونسية زرعت فيها حب الوطن، لدرجة رفضها أثناء تعليمها الإبتدائي ترديد النشيد الوطني الفرنسي والذي يقول “فرنسا أمُّنا” لتُردّد في عناد: “الجزائر أُمُّنا”.

 التحقت بعد دراستها الثانوية بمعهد للخياطة والتفصيل لشغفها بتصميم الأزياء، وبمجرد اندلاع الثورة الجزائرية في عام 1954 تركت حُلمها وهوايتها، لتلتحق بصفوف الفدائيين ضد الإستعمار الفرنسي.

من فدائية متطوعة إلى المُطارَدة رقم 1

 

انضمت لـ “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” مبكرًا في عمر 19 عامًا، وكانت من أولى المتطوعات لزرع القنابل في أماكن تجمعات وثكنات جنود الاحتلال الفرنسي، وقادت المظاهرات في كل ولايات الجزائر لحشد المواطنين وتنظيم التحركات الشعبية، كل هذا وهي لم تكمل عامها العشرين بعد! حتى أصبحت العقل المدبِّر للعديد من العمليات الفدائية، فأضْحت الأولى في قائمة المطلوبين المُطاردين من قِبَل قوات الإستعمار.

الحكم بإعدام همزة الوصل

 

فتاة لم تتجاوز الـ22 عامًا، مصيرها الطبيعي في المجتمع غالبًا الزواج، أو على أحسن الفروض أن تلتحق بعملٍ ما، ولكن “جميلة” بعد انضمامها للعمل الفدائي بأربع سنوات فقط، أصبحت همزة الوصل بين القيادات العسكرية المتوارية في الجبال، وبين زعيم المقاومة ياسيف السعدي.

حتى تم القبض عليها في عام 1957 بعد إصابتها بطلق ناري في الكتف، ودخلت المستشفى، ومن هنا بدأت رحلة تعذيبها حتى تُرشد عن زملائها المناضلين، ولكنها رفضت بكل شجاعة وقوة تحمّل، حتى أودعوها السجن، فحوكمت محاكمة صورية، وقالت جملتها الشهيرة داخل قاعة المحكمة: “أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة”، ليصدر ضدها حكمٌ بالإعدام، فتضحك ساخرة من الحكم، ليغضب القاضي ويطالبها بالتزام الجدية داخل قاعة المحكمة، وتُنقل بعدها إلى أحد السجون في فرنسا.

وأخيرًا.. الحرية

تحرير الجزائر وإطلاق سراحها

 

للحق رجاله الذين يدافعون عنه في كل بلدان العالم، فقد اجتمعت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بعد أن تلقت الملايين من برقيات الاستنكار من كل أنحاء العالم، فتم تأجيل تنفيذ الحُكم بالإعدام، ثم عُدّل إلى السجن مدى الحياة، ليُطلق سراحها بعد تحرير الجزائر عام 1962 وتعود إلى بلدها مرفوعة الرأس.

مع الشعب ظالمًا أو مظلومًا

 

طالما رددت هذه الجملة: “أنا مع الشعب الجزائري ظالمًا أو مظلومًا”، في إشارة إلى وقوفها بجانب الشعوب المظلومة وتأييدها لنضالها وكفاحها المشروع ضد الاستعمار.

https://www.youtube.com/watch?v=A7CyVfu6pyM

ذكريات الثورة

 

تقول في أحد لقاءاتها: “الثورة الجزائرية قوية وعملاقة، ولم أنسها طوال هذه السنين، فأنا عايشة مع المجاهدين اللي عرفتهم، ولو هتكلم عن الشهداء هبكي، لأنهم عايشين في وجداني، وبقولهم آسفة، لأن لو حبيت أوصفهم الكلام مش هيسعفني”.

إلى الجميلة “جميلة”

 

بعد كل هذا التاريخ الحافل بالنضال والمقاومة، ليس غريبًا أن يتغنى بها أشهر المطربين، وأن يكتب لها أشهر الشعراء أجمل القصائد.

فقد كتب لها الشاعر نزار قباني قصيدة شهيرة بعنوان “جميلة بو حيرد”

كذلك الشاعر اللبناني غسّان مطر.

 

كما غنّت لها المطربة وردة الجزائرية أغنية بعنوان “كلنا جميلة” كلمات عبد الجليل وهبة وألحان فليمون وهبي.

وغنّت لها المطربة فيروز قصيدة بعنوان”رسالة إلى جميلة” كلمات وألحان الأخوين رحباني.

كما قدم لها المطرب كارم محمود أغنية بعنوان “يا جميلة يا رمز الوطنية”

بالإضافة إلى تجسيد شخصيتها في العديد من الأعمال السينمائية، وأشهرها الفيلم الذي يحمل اسم “جميلة”، وجسدته الفنانة ماجدة الصباحي، وعن طريقه ذاع صيت المناضلة في كافة أنحاء الوطن العربي.

في مصر استقبلها الزعيم

تكريم مصر لها وحفاوة الإستقبال

زارت “جميلة” مصر مرتين، كانت أولهما في عام 1962 بدعوة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عقب تحرير الجزائر وإطلاق سراحها، قابلت فيها كبار رجال الدولة، وزارت أشهر معالمها السياحية، واستقبلها المصريون بالورود.

وتحدثت د.هدى عبد الناصر مؤخرًا مع موقع “إعلام دوت أورج” عن ذكريات هذا اللقاء قائلة إنها شعرت بالفخر عندما قابلتها لأول مرة، مشيرة إلى ضرورة حصولها على التكريم اللائق بها.https://www.facebook.com/E3lam.org/videos/2126930650885165/

وكانت زيارتها الثانية لمصر منذ يومين في تكريم المجلس القومي للمرأة لها، وأيضًا تكريمها على هامش الدورة الثانية من “مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة”، والتي غلبتها دموعها خلاله، لما سمعته من كلمات الثناء والمدح فيها.

قالت عن مصر

“أهل مصر في قلوبنا، وتربّيت على أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، وأهلنا بيحكولنا عن مصر ونحنا صغار”.

وقد قالت بعد زيارتها لبورسعيد في الستينيات: “أشعر أن رأسي تَطال السماء لأنني أسير على أرض الأبطال”.

الشهيدة الحية

لُقِبَت بالمناضلة والمجاهدة والشهيدة الحية، وأصبحت قصة حياتها تُدرّس في مناهج الوطن العربي كله، والآن بعد كل هذا السّجل المُشرّف، وهي في عمر الـ83، ستظل جميلة بو حيرد رمزًا للوطنية والكفاح، وأيقونة الجهاد ضد الإحتلال في العالم أجمع.