الطيبون على الشاشة (4) .. عبد الوارث عسر "العجوز دائماً"

نوران عاطف

“انا طيب زي كمال أبو رية ومحمود الجندي” ظهر الفنان غسان مطر في إحدى مشاهد فيلم “لا تراجع ولا استسلام” ليلخص مسيرة نوع من الفنانين مثل كمال أبو رية ومحمود الجندي ويذكرنا بجمال اسماعيل، عبدالوارث عسر، حسن مصطفى، وحسين رياض في أغلب أدواره، فنانون لا غبار على قدراتهم التمثيلية وإمكانياتهم على تقمص أنواع مختلفة من الأدوار، لكن ملامحهم وأصواتهم وطريقة آداءهم أهلتهم دائماَ لدور حتى إن اختلفت تفاصيله وتركيبته النفسية لكن يمكن وصفه بـ “الطيب” أو “اللي مننا وعلينا”.

نرشح لك: الطيبون على الشاشة (1).. محمود الجندي “ابن البلد”

يستأنف غسان “لكن المخرجين حصروني في أدوار الشر”،في خلطة الدراما المصرية المعروفة – والتي ربما ظلمت قدرات بعض الممثلين بتكرار المزيج المضمون جماهيرياً- يقدم القائمين على العمل الخير والشر والمعركة وقصة الحب، يبرز “الطيب” في شخصية الأب أو الأخ أو الصديق الوفي وربما الخادم أو بواب العمارة صاحب النخوة والجدعنة والمشاعر الرقيقة، أصحاب تلك الوجوه أحبتهم أدوارهم وأصرت على استمرارهم فيها فظلوا بمرور عمرهم الفني هى مساحتهم المفضلة للتواصل مع المشاهد الذي ألفهم واطمئن بوجودهم ليبشره بالنهاية السعيدة.

في سلسلة موضوعات يرصد إعلام دوت أورج سيرة أبرز تلك الوجوه.

ولد عبد الوارث عسر في 16 سبتمبر 1894، ويؤكد أن الحتاقه بالفن لم يكن مفاجأة أو محض صدفة، لكنه أتى بعد مقدمات وتفكير وجهتهم الظروف، عرف عن نفسه شغف القراءة والاطلاع، حيث اعتكف خلال المرحلة الثانوية على دراسة الأدب العربي، وقرأ كل ما كان في متناوله من كتب، اهتم بشكل خاص بالتاريخ العربي، فقرأ أمهات الكتب المتخصصة به، وانتقل بعدها إلى التاريخ الفرعوني الذي أثار اهتمامه أيضاً، وسافر على إثره إلى مختلف محافظات الصعيد لمشاهدة آثاره وتطبيق ما قرأه على ما يراه، وربما ذلك الشغف هو ما دفعه إلى تسمية إبنتيه “لوتس” على اسم زهرة اللوتس التي قدسها الفراعنة، والأخرى “هاتور” وهو اسم مشتق من الإلهة “حتحور” آلهة الحب والجمال عند قدماء المصريين.

ظهرت موهبة “عبد الوارث” في الكتابة كنتيجة طبيعية لذلك الحصاد الثقافي الضخم، فنظم الشعر وتميز في إلقائه، لكنه اعتقد أن التطور العصري أو التحول الذي يحتاجه هو نفسه عبارة عن تغيير من فنون الكتابة والشعر والمقال والخطابة إلى المسرح أو الفن التمثيلي، ومن هنا كان اتجاهه إلى مسرح جورج أبيض بعد حصوله على “البكالوريا” أو شهادة الثانوية العامة حالياً.

كانت خطبة “الحجاج بن يوسف” عند وصوله إلى الكوفة والِ عليها بتكليف الخليفة عبد الملك بن مروان، هي ما اختاره الفنان الشاب وقتها ليعرض موهبته على المسرحي الكبير جورج أبيض الذي لم يعلق على آدائه إنما اصطحبه إلى باقي أعضاء الفرقة وعرفه عليهم كعضو جديد فيها.

نرشح لك: الطيبون على الشاشة (2).. كمال أبو رية “المثقف دائماً”

الراعي العجوز

لم يعرف أحد عبد الوارث عسر إلا عجوزاً، ويؤكد هو بالفعل أنه لم يؤد أي مرحلة عمرية أخرى سواها منذ بداياته، حيث كان أول أدواره في عام 1917، برواية “الممثل كين” وقدم شخصية مدير المسرح، بعدها “أوديب ملكاً” وقدم فيها الراعي العجوز، وذلك الدور هو ما ثبّت أقدامه وأثبت جدارته، حيث ارتبط بقصة طريفة طوال ليالي العرض في إحدى المشاهد الدرامية عندما كان يدخل “عبد الوارث” بمكياج الكهل عبارة عن لحية بيضاء طويلة ويرتعش ليعبر عن العجوز صاحب الـ 120 عام، ويتصاعد الحوار بينه وبين البطل “جورج” فيضغط على كتفه ويقع في مشهد من المفترض أنه درامي للغاية، لكن ما يحدث أن الجمهور يندفع في الضحك.

استنتج “عبد الوارث” أن السبب في ذلك اهتزاز اللحية بسبب ارتعاشاته فتعطي صورة كوميدية تفصل المشاهد عن الحالة، فاتجه إلى طبيب يسأله عن أعراض شيخوخة مختلفة عن الرعشة المستمرة، فأخبره أن التصلب أيضاً من الشيخوخة، فغير “عسر” شكل الآداء كله، وصغّر من حجم اللحية وزادها كثافة، وفي يوم العرض لم يضحك الجمهور بل “تأسفوا” على حد تعبيره، وكانت ليلة من أسعد ليالي حياته، شعر فيها بالنجاح والإنجاز وهنأه الجميع على ذلك.

من المسرح للسينما

بعد نجاحه في المسرح اتجه “عسر” للسينما عام 1935 وكان أول أفلام هو “دموع الحب” مع الفنان محمد عبد الوهاب، ويحكي الفنان القدير أن تلك التجربة كانت بها أول شعور له بالفشل، حيث أنه لم يكن على علم بالاختلافات بين السينما والمسرح، فلم يكن هناك “بروفة” شاملة تسبق التصوير وتجعله على علم بأماكن وقوفه وأماكن الكاميرا والحركة بينه وبين الممثلين، اقتصرت التجهيزات على حفظ الجمل وقراءاتها في اجتماع بين الفنانين، وأكد له الجميع استحالة “البروفة” التي يتخيلها قبل وقت التصوير نفسه.

اتجه فريق العمل وقتها للتصوير بفرنسا، فكان من الصعب عليه الانسحاب أو الهروب، فاضطر لآداء الدور ويعبر عن ذلك الوقت “كنت حاسس إن أي مجهود هعمله مش نافع، وكانوا بيقولولي اللي بتعمله كويس لكن ماكنتش مصدق، وخلصت وأنا في منتهى الألم”، لكن بعد عرض الفيلم وجد “عسر” نجاحاً جماهيرياً مرضِ، ولم يجد آداءه بالسوء الذي تخيله بل تقبل الناس الدور والشخصية بشكل جيد.

نرشح لك: الطيبون على الشاشة (3).. حسن مصطفى “بابا رمضان السكري”

كاتب السيناريو

من المعلومات المهدور حقها عن الفنان القدير عبد الوارث عسر هي براعته في الكتابة السينمائية واشتراكه مع المخرج محمد كريم في عدد من الأفلام ككاتب سيناريو، مثل “زينب” عن رواية الكاتب الكبير محمد حسين هيكل، و”ممنوع الحب” و”يوم سعيد” للفنان محمد عبد الوهاب، ويحكي “عسر” عن طرائف في ذلك الصدد، أثناء التجهيز لفيلم “غزل البنات” عندما طلبه الفنان “أنور وجدي” وهو بطل الفيلم ومخرجه ومنتجه، ليخبره “نجيب تاعبني جداً” في إشارة للفنان نجيب ريحاني الذي عكف على كتابة سيناريو الفيلم، لكن رأى “وجدي” أن ميول “الريحاني” المسرحية تؤثر عليه وما يكتبه مناسب للمسرح وليس السينما، لكنه لا يستطيع إخباره بذلك نظراً لمكانته الفنية العظيمة.

طلب منه “عبد الوارث” أن يخبره في وقت اجتماع عملهم ليأتي بشكل يظهر كأنه مصادفة، وبالفعل حضر “عسر” اجتماعهم واستمع لآخر تطورات السيناريو، فاعترض وأخبره “حوار السينما زي ما أكون بكتب تلغراف كل ما أحذف كلمة يكون أحسن” وأكد عليه “الحوار جميل وتبقى مستختسر تشيل منه كلمة لكن لازم تشوفوا حل”، فوافقه “نجيب” وطلب منه مشاركته في الكتابة ففعل ذلك “بقى يمليني وأنا أكتب، وأقوله لا بلاش دي .. نحذف دي أحسن .. وانكتب السيناريو في آمان الله وعملت دور مرزوق أفندي”.

https://www.youtube.com/watch?v=OJEWzJ-cgXY

فن الإلقاء

لعبد الوارث عسر أعمال يمكن اعتبارها علامات بارزة في السينما المصرية مثل دوره الخالد في فيلم “شباب امرأة” مع الفنانة تحية كاريوكا وإخراج صلاح أبو سيف، وكان آخر أفلامه هو “لا عزاء للسيدات” للفنانة فاتن حمامة عام 1979، والتي بدأت حياتها العملية معه طفلة في فيلم “يوم سعيد” مع الفنان محمد عبد الوهاب، لذلك يؤكد “عسر” أنها الفنانة الوحيدة التي يشعر بصدق أنها ابنته فعلاً وليس أمام الكاميرات فقط “كان عندها 6 سنين، كنت بشيلها والعب معاها وأجري وراها وبعدين كبرت قدامي”.

اقتنع “عسر” أن الفنان مطرب وملحن في آن واحد “أما بلقي دور أنا بحضر الجمل بتاعته جملة جملة، وبحدد هلقيها بأي نغمة، والانتقالات الصوتية، وأغير النغمة فين .. دة تلحين” لذلك برع في الإلقاء ودرّسه في كلية الإعلام ومعهد السينما، كما صدر له كتاب بعنوان “فن الإلقاء”، وتوفي الفنان القدير في 22 إبريل 1982.