محمد وليد بركات يكتب: كم مليون "مِسْطَح بن أُثاثة"؟

من أشهر وقائع التسامح في التاريخ الإسلامي، اتهام بعض أهل المدينة المنورة في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) السيدة عائشة (رضي الله عنها) في شرفها، وكان من بين هؤلاء صحابي فقير يُدعى “مِسْطح بن أُثاثة”، ظل يكرر الاتهام بلا دليل، حتى قرر الصديق أبو بكر حرمانه من الصدقة التي كان يقدمها له، فنزلت سورة النور تبرئ أم المؤمنين، وتتوعد أصحاب الشائعة، وتدعو أبا بكر للعفو والتسامح، فعفا عنه.

أتخيل لو شهد “مِسْطح” شبكات التواصل الاجتماعي لظل ينشر الاتهام، ويشاركه Share على المجموعات Groups، ويشير Tag لأصدقائه فيه، ظنا منه أنه يخبرهم بالحقيقة، ويحمل إليهم سبقا صحفيا، أو خبرا طازجا، أو معلومة يجب ألا تفوتهم.

كثيرا ما تشكو الدولة من الشائعات، وكثيرا ما يُطالب الرئيس وسائل الإعلام بتحري الدقة، كما أن بعض الجهود المخلصة تُبذل في “مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار” بمجلس الوزراء، من أجل إصدار نشرات دورية للرد على الشائعات وإبراز الحقائق، إلا أنه في المقابل تظل تلك الجهود موجهة لخدمة أهداف النظام، بمعنى أنه كما يمتلئ موقع فيسبوك، أكبر موقع تواصل اجتماعي في العالم، بالمجموعات المعارضة للنظام الحاكم الحالي، والتي تروج الشائعات بالباطل حول فشله وفساده، فإنه يمتلئ أيضا بالمجموعات التي تروج الشائعات حول إنجازات لم تحدث، إنجازات لم يَدّعِ الرئيس ولا الحكومة أنها قد تحققت، والعجيب أن مئات وأحيانا آلاف الإعجابات تتابع هذه المنشورات العجيبة، وتردد عبارات المديح والثناء بلا عقلانية، لدرجة أن أحد المندسين إلى هذه المجموعات، نشر صورة لبطلة أفلام إباحية أجنبية شهيرة، ثم كتب أنها مواطنة أبلغت عن خلية إرهابية في مصر الجديدة، لتنهال على الصورة عبارات مثل “تحيا مصر” و”الله أكبر”، والحقيقة أن هذه المكيدة نُصبت فخا لهؤلاء الذين لا يفكرون ولا يتحرون؛ لإثبات أن تأييدهم للنظام قائم على الجهل لا الوعي، فإذا كانت الدولة تشكو من كتائب الإخوان الإلكترونية، وتزعم، وربما تكون على صواب، أن ثمة آلاف الحسابات الوهمية على شبكات التواصل الاجتماعي معدة لتهاجم القرارات الحكومية؛ بهدف إشاعة مناخ من السخط والحنق، وتصوير المشهد كما لو كان الرأي العام غاضبا ورافضا للقرارات الحكومية، فلماذا لا تجند الحكومة هؤلاء المؤيدين لها، تدربهم وترشدهم؛ ليمثلوا كتائب الكترونية وطنية مضادة، تنشر المعلومات السليمة، وتدحض الشائعات وتحاصرها، لماذا لا يتم توظيف طاقاتهم وأوقاتهم و”أعدادهم” توظيفا مفيدا؛ ليكونوا قبسا من نور بدلا من أن يسهموا في إشاعة الظلام؟! ألا يفل الحديد إلا الحديد؟! كم مرة نادينا بالحلول التي تأتي من خارج الصندوق؟!

الأمر الآخر هو الجهود الفردية التي يقوم بها بعض المتطوعين في هذا الصدد، مثل صفحة “ده بجد؟!” وصفحة “30 فبراير” لمواجهة الشائعات وتكذيبها، دون أن تتلقيا دعما حكوميا، لا ماديا ولا تكنولوجيا، ولعلنا نسأل لماذا لا يتم توقيع بروتوكول تعاون بين القائمين على هاتين الصفحتين من جانب، والحكومة ممثلة في وزارات كالاتصالات، والثقافة، والتعليم، والأوقاف، وكذلك الكنيسة المصرية، والمجلس الأعلى للصحافة والإعلام، للاستفادة بخبراتهم في هذا المجال في صياغة برنامج تدريبي ينضم إليه الإعلاميون، والمثقفون، والدعاة الدينيون، والمعلمون، وغيرهم ممن يتضمن عملهم اتصالا بالجمهور، كخطوة أولى لنقل هذا الوعي إلى غيرهم تباعا، بنفس الطريقة التي تنتشر بها الشائعات، ولكن هذه المرة ينتشر بها الوعي.

وقد أشارت دراسة أعدها الدكتور صادق رابح، بعنوان “دور التّفكير النقدي في عقلنة التعامل مع الإشاعات على الشبكات التواصل الاجتماعي”، ونشرتها المجلة العربية للإعلام والاتصال، في عددها الصادر في مايو 2017، إلى أن أن تربية الأفراد على التفكير النقدي، وكذلك استفادة المواطنين من القدرات النقدية لبعضهم البعض، سيعمل على الحد من انتشار الإشاعة في الفضاءات الإلكترونية، ومنها شبكات التواصل الاجتماعي.

والمواطن صاحب العقلية الناقدة يفكر فيما يسمع ويقرأ، ويحلله، ويقارنه بغيره من المعلومات، يراجع سياقه الزماني والمكاني، يتأكد من اختصاص مصدره وأصالته وأمانته، ودقة تفصيلات المعلومة، أما المواطن الذي يفتقد ذلك الحس، فلن يفكر ولن ينتقد، سيفعل مثل “مِسْطح”، ويسير ضمن القطيع، يردد ما يُقال، ليكون أداة في يد “المنافقين” الذين ادّعوا كذبا الإيمان، وما إن سنحت لهم الفرصة حتي طعنوا النبي في شرفه وشرف زوجته.

الأمر خطير، الشائعات إحدى أدوات الحرب النفسية، التي هي ركن من أركان الجيل الرابع من الحروب، التي تستهدف إسقاط الدول بتدميرها من الداخل، والمعلومة تبدد ظلام الشائعة، والوعي يوجه العقول الحائرة، وينير النفوس المظلمة، وما أكثرها في هذا البلد، والسؤال: إذا كان في مجتمع المدينة المنورة الفاضل “مِسْطح بن أُثاثة”؟ فكم مليون “مِسْطح” لدينا اليوم؟!