محمود فوزي السيد يكتب: عندما تراجع عمرو دياب

محمود فوزي السيد


بعد هدوء العواصف تظهر الرؤية أكثر وضوحا؛ الأيام القليلة الماضية شهدت تسونامي “ديابي” لم يذر على أرض الغناء مكانا إلا وترك بصمته عليه، بصدور ألبوم عمرو دياب الجديد، الذي جاء اسمه حاملا صفة أراد صاحب الألبوم إلصاقها بنفسه أكثر من مجرد اختيار اسم جذاب للمنتج الفني “معدي الناس”.

كتب المحللون.. فرح المريدون.. وسب الشتامون.. كل أراد أن يرى الألبوم حسب أهوائه الشخصية وحالته المزاجية، نقد إيجابي هنا؛ وآخر بطعم المصلحة الشخصية هناك، وكالعادة رفع المحبون الألبوم إلى عنان السماء؛ وخسف به الكارهون سابع أرض.

خلاصة القول أن ألبوم “معدي الناس” هو حالة جديدة في حياة فنان كبير اعتاد احتراف فن صناعة الجدل؛ جاء الألبوم في حقبة زمنية ربما هي الأغرب في حياة عمرو دياب؛ خناقات وشائعات لم يخرج يوما للرد عليها أو يفكر في تكذيبها أو تأكيدها، وهي عادته؛ هو دائما ما يتخذ الصمت والتجاهل منهجا لإدارة أزماته الشخصية منها والفنية، لكنه في النهاية اختار الرد على طريقته؛ اختار أن يصنع من ألبومه حدثًا فنيًا ربما يصعب على الآخرين امتلاك القدرة على رسم نفس خريطة نجاحه.

ولأن العمل الفني في معظم الأحيان يكتسب أهميته من اسم صاحبه، كان للجميع وقفة مع الألبوم وصاحبه، وراحت الأسئلة تتناثر شرقا وغربا شمالا وجنوبا، حول نوايا عمرو دياب من كلمات أغنياته تارة، ومن رجوعه للماضي في شكل الموسيقى والكلمات في بعض الأغنيات تارة أخرى؛ هل بدأ الخوف من هجرة جيل كامل له ولأغنياته، يتسرب إلى قلبه وعقله، فقرر العودة مسرعا لمنصة الانطلاق التي صنعها لنفسه في التسعينيات وبداية الألفية؟، أم جاء الألبوم محاولة منه لتقريب وجهات النظر بين جيل ظن أنه على وشك فقدان مطربه المفضل، وجيل جديد يتمنى دياب نفسه أن يتربع على عرش مطربيه وهو جيل الشباب الذي لم يتجاوز عمره العشرين؟

أسئلة كثيرة صاحبت صدور الألبوم، لعل أهم ما يميزها هو الوصول إلى إجابة قاطعة حول قرار عمرو المفاجئ بالعودة للجيل القديم من محبيه؛ وهو القرار الذي لازمه آخر بعودة التعاون مع بعض من فريق عمل صنع بهم ومعهم مجد سنوات طويلة وهم: أيمن بهجت قمر ومحمد يحيى وعمرو مصطفى. النتيجة الأهم التي خرجت بها من الألبوم، أن الجمهور هو صاحب الكلمة العليا في علاقته بالفنان؛  أي فنان هو القادر وحده على تحريك بوصلة الفنان إلى قبلته أينما كان.

كتبت منذ عامين تحت عنوان “عن عمرو دياب بتاعنا.. والهضبة بتاع نفسه“؛ وكان الحديث وقتها يتزامن مع طرح ألبوم عمرو دياب “أحلى وأحلى”؛ كتبت منتقدا فراغ الألبوم من “حس” عمرو دياب الذي تسبب في عشق الملايين له فيما قبل مرحلة “الميوزك أوورد”؛ هاجمت “الهضبة” الذي لا أعرفه والذي تسبب في غياب “عمرو دياب” الذي نعرفه؛ كتبت عن عمرو دياب الذي هجر جيلا كاملا رفعه لقمة المجد وراح يبحث عن أجيال شابة يجدد بها نشاطه وتنفخ في روحه من شبابها.

بمجرد نشر المقال فوجئت بعاصفة تأييد من قبل مهتمين بالشأن الموسيقي -منهم من عمل مع عمرو دياب شعراء وملحنين وموزعين، ومنهم جمهور عادي وجد ضالته في هذا الوصف الدقيق لحالة عمرو دياب وقتها، والتي راح في دوامتها لأكثر من خمس سنوات أصدر خلالها ثلاث ألبومات هي الأضعف في مسيرته، الأهم من كل ذلك هو خضوع عمرو دياب ونزوله عند رغبة جيل هو نفسه يعرف مدى تعلقه به؛ هنا كانت النقطة الفاصلة في ألبوم عمرو دياب الجديد الذي تراجع فيه عن “العنجهية” على الجمهور ليقرر طواعية الخروج من محبسه البارد الاختياري الذي عاش فيه لسنوات في عزلة عن جمهوره؛ وينزل على رغبة هذا الجمهور ويعود لأحضان طالما قدمت له الأمان في وجه منافسيه.

هلت البشائر قبل طرح الألبوم بإعلان دياب العودة للتعاون مع أيمن بهجت قمر وعمرو مصطفى ومحمد يحيى؛ وهو خبر لو تعلمون عظيم؛ أثلج قلوب الملايين من محبي سماع كلمات أيمن وألحان عمرو مصطفى ويحيى تجري على لسان عمرو دياب؛ كانت النتيجة متوقعه، أغنيات بطابع زمان، 15 سنة فاتت على الأقل. صاحب الأمر حالة من الاشتياق مصحوبة بالترجي بعودة عمرو دياب في شكله القديم المفضل لدى جمهور الثمانينات والتسعينات؛ ولم يخيب الثلاثي رجاء كل من توسم فيهم خيرا فاجتهدوا وكانت النتيجة كلمات مختلفة غابت عن ألبومات عمرو دياب الأخيرة؛ وألحان ربما تعيد إلى الأذهان حالة البهجة التي عاشها جمهور دياب في ألبوماته السابقة لـ “بناديك تعالى”.

وقدم عمرو دياب نفسه دليلا لا يحتمل تأويلات كثيرة عن تراجعه، عندما قدم الشاعر أحمد المالكي كاتب كلمات أغنية “أول كل حاجة” في حفله الأخير بمارينا، حيث قال نصا: “لأول مرة هتعرف معاكم على شاعر الأغنية علشان تعرفوا أنا يهمني الكلمة وهو كلمته لما جت كانت قوية جدا”؛ هنا كانت النقطة الفاصلة في الأمر؛ فعمرو دياب يؤكد أنه مهتم بالكلمة، وهو رد واضح على الانتقادات التي وجهت له خلال السنوات القليلة الماضية بعدم الاهتمام بالكلمة والتركيز فقط على الأشكال الموسيقية التي يفضلها جمهوره المنشود.

إذا، تراجع عمرو دياب عندما وجد نفسه قاب قوسين من خسارة قطاع كبير من محبيه؛ وهو ما يحسب له ولا يؤخذ عليه بالمناسبة؛ فعمرو دياب صنيعة ذكائه الفطري بجانب موهبته وقدرته على الاستمرار.

في الوقت نفسه كان عمرو دياب يعيش مرحلة عمل موازية لضم الأغنيات الجديدة للألبوم؛ وهي تسويق المنتج الفني قبل طرحه؛ فوقع عقودا مع شركتين عملاقتين لضخ أموالهما وتسخير إمكانياتهما لخدمة دعاية الألبوم؛ حصل منهما بالتأكيد على مقابل مادي ضخم يحقق من خلاله الربح المضمون لشركته “ناي”، لعلمه المسبق بأن مبيعات الـ cd لن تحقق له ما يتمنى من تلك المكاسب بسبب الظروف الاقتصادية؛ فكانت النتيجة واحدة من كبريات حملات الدعاية في حياة عمرو دياب وأغلب الظن في تاريخ الغناء المصري؛ زاد منها تلقائيا جمهور السوشيال ميديا الذي تفاعل بشدة مع كلمة “برج الحوت” في الأغنية التي تحمل اسم “يا أجمل عيون”؛ وظني أن كبرى شركات الدعاية المتخصصة في العالم لم تكن لتقدم لعمرو دياب تلك الفكرة الإعلانية المجانية التي صنعتها تلك الأغنية بعد دقائق من إتاحة الألبوم للاستماع.

تلك الأغنية التي يبدو تنازل عمرو دياب فيها واضحا عندما وافق على غناء كلمات ضعيفة بمفردات لم يعتد هو نفسه على تقديمها من قبل مثل “صوتك عذب وملائكي”؛ عمرو دياب الذي عرف عنه التدقيق الممل في كل كلمة في أغنياته لم يملك خيار تغيير كلمات لا تناسبه لمجرد أن كاتبها هو الشاعر السعودي تركي آل الشيخ؛ الذي قدم له أغنية أخرى في نفس الألبوم هي “أحلى حاجة”؛ الغريب في الأمر أن دياب غنى كلمات تركي آل الشيخ التي لم تتناسب مع شكله ولا طابعه الموسيقي في نفس الوقت الذي تنازل فيه عن ضم أغنيات بهاء الدين محمد في نفس الألبوم؛ وفي الأمر يكمن أحد أسرار الألبوم التي لا يعرفها سوى عمرو دياب والشاعر السعودى وثالثهما عمرو مصطفى ملحن الأغنية الأولى.

المهم.. بعيدا عن شغل أنفسنا بغيبيات الألبوم وظروف رضوخ عمرو دياب لرغبات تركي آل الشيخ، حمل الألبوم عددا من الأغنيات الأخرى التي تضمنت كلمات على مستوى عالٍ من الجودة افتقدتها ألبومات عمرو دياب الأخيرة، ومنها “أول كل حاجة”، التي كتبها الشاب الموهوب بالفطرة أحمد المالكي؛ في رأيي أنها تصلح للمنافسة بقوة على لقب الأقوى بين كلمات أغنيات “معدي الناس”؛ حيث تحمل في مضمونها القصة والشجن ولا تفتقر للهدف مثل “برج الحوت”؛ نفسها الكلمات التي تمسك دياب بوجودها في الألبوم الأمر الذي جعله يضع يده بالتدخل شخصيا في تلحينها حتى لا يفقدها في زحمة العمل على الأغنيات الأخرى. والمالكي -لمن لا يعرف- صاحب عدد من الأغنيات الناجحة تعاون فيها مع نجوم آخرين، إلا أن “فاترينة” عمرو دياب أكثر لمعانا من غيرها فكانت النتيجة ميلاد شاعر أتوقع أن يحتل مكانة متقدمة بين أقرانه خلال الفترة القادمة.

ثم تأتي أغنية “نغمة الحرمان” لناظر مدرسة الموهوبين أيمن بهجت قمر؛ الأغنية التي احتلت المساحة الأوسع من إعجاب جمهور عمرو دياب لأنها استدعت رائحة الماضي القريب؛ مصدر قوة الأغنية يكمن في سهولتها ومفرداتها الصادمة واللحن الذي وضعه محمد يحيى ببراعة ملحن صاحب دماغ معجونة مزيكا؛ وكذلك قدرة الموزع أسامة الهندي على صياغتها بتلك الحالة والآلات الموسيقية التي جاءت معبرة عن إحساس المطرب.

الشاعر تامر حسين كان من جديد صاحب نصيب كبير من أغنيات ألبوم “معدي الناس”، كعادته مع عمرو دياب في ألبوماته الأخيرة؛ وبرع تامر في كتابة أغنيات “قلبي اتمناه” و”جنب حبيبي”؛ وكذلك أغنية “حبايب أيه” التي حملت في مضمونها كلمات ذات طابع مرتب وقصة درامية جيدة استوحى كلماتها من الواقع؛ ليعلن عن وجوده بقوة وسط المنافسة حتى لو اشتدت بعودة العناصر القديمة ودخول عناصر جديدة إلى دائرة اهتمام عمرو دياب، وهو ما يحسب للشاعر الشاب الذي تحمل فوق طاقته خلال السنوات القليلة الماضية في ألبومات عمرو دياب مما جعله عرضه لانتقادات من البعض بسبب عدم وجود القصة المتكاملة في كلماته، وهو ما حدث لا لشيء أكثر من تحمله مهمة كتابة أكثر من نصف أغنيات ألبومات عمرو دياب الأخيرة.

كذلك عاد الشاعر أسامة مصطفى بأغنيات “معدي الناس” و “قمر أيه” وهي النوعية التي يفضلها عمرو دياب مؤخرا من ناحية الكلمات البسيطة التي لا تحمل قصة درامية والتي تعتمد بشكل أكبر على الشكل الموسيقي المقدم خلالها؛ وعادة هي أغنيات لا تخرج عن إطار نوعي موسيقى “الهاوس” و”الترانس” التي يصر دياب على وجودها لصبغ الألبوم بطابع عصري مواكب لشكل الموسيقى العالمي؛ وهي قوالب ثابتة عادة ما يفرضها دياب نفسه على كل الموزعين الموسيقيين الذين تعاون معهم مؤخرا وآخرهم أسامة الهندي الذي التزم بالقالب الثابت لتلك النوعية مع إدخال بعض العناصر الموسيقية والآلات الجديدة عليها حسب رؤيته الخاصة كموزع موسيقي.

شهد الألبوم الجديد لعمرو دياب دخول وجوه جديدة على مستوى الكلمات والتلحين أصفهم بـ “المجددين” وهم أصحاب تأثير إيجابي على الألبوم، تسبب وجودهم في ضخ دماء جديدة لألبومات عمرو دياب؛ منهم سامر أبو طالب ملحنا لأغنيتي “قمر أيه” و”معدي الناس” ؛ ومديح حسن ملحن “آه حبيبي” وهو اللحن الأهم بين أغنيات الألبوم والذي أعاد جمهور عمرو دياب لشيء من “النوستالجيا” ورائحة ألبوم “نور العين” وتلك الفترة الزمنية التي تألق دياب وقتها في تقديم الألحان الشرقية ببراعة شديدة رغم عدم تصنيفه وقتها مطربا لتلك النوعية من الألحان؛ وجاءت الكلمات التي كتبها الشاعر هاني رجب متسقة مع أجواء اللحن.

ومن بين الجنود القدامى العائدين للتعاون مع عمرو دياب بعد الصلح بينهما واعتذاره العلني لدياب؛ يعود الملحن عمرو مصطفى الذي ظن جمهور عمرو دياب أن عودته هي القنبلة الموقوتة في ألبوم دياب الجديد، لما يتمتع به من تاريخ مشرف في صناعة نجاحات عمرو دياب نفسه؛ إلا أن عودة عمرو مصطفى جاءت عادية لا تحمل كل هذا الكم من الشغف للعودة إلى أحضان عمرو دياب من جديد؛ رغم اختيار الأخير لأغنية من ألحانه هي “قلبي اتمناه” كـ “هيد” للألبوم؛ إلا أن الأغنية جاءت “هيد شرعي” لا يحمل من المفاجآت الموسيقية ما يبهر المستمع، على عكس عودة محمد يحيى بأغنية “نغمة الحرمان”؛ وكأن عمرو مصطفى ما زال يعيش مرحلة “جس النبض” ويتوجس خيفة من شكل علاقته بعمرو دياب؛ فتشعر مع الأغنيات التي لحنها “قلبي اتمناه” و”يا أجمل عيون” أنه يستحق عن جدارة واستحقاق لقب “الحاضر الغائب” في الألبوم.