العدد صفر.. قصة الجريدة التي تشارك في قتلك كل يوم

• ما الذي سيحدث عندما يجتمع 6 من الصحفيين لإصدار الأعداد التجربيبة من جريدة لن تصدر أبدا؟
• كيف تتشابه أجواء الصحافة الفاسدة التي يستخدمها رجال المافيا في إيطاليا مع تلك التي تصدر في مصر؟
• هل مات موسوليني فعلا بعد الحرب العالمية الثانية أم أن من تم إعدامه هو شبيه له؟

محمد هشام عبيه  (نقلا عن المقال) 

هذه آخر روايات الكاتب الإيطالي الأشهر “امبرتو إيكو”. نشرها قبل وفاته في 2016 بعام واحد فقط، وكأنها رسالة يودع بها العالم مفادها “كل ما تعيشونه كذب أيها السادة”.

بطلنا هو “كولونا” كاتب الظل الذي يعيش في ميلاونو، يكتب الروايات البوليسية لصالح مؤلفين آخرين ويترجم من وإلى الألمانية بعض الأعمال الرديئة ويبحث عن حب حقيقي أو مغامرة جديدة وهو في الخمسينيات من عمره لأن “الحياة لم تكن جديرة بالاهتمام” كما يصفها هو بنفسه. في صيف 1992، يأتيه العرض من “سيماي” وهو صحفي مخضرم معروف في الوسط بأنه ليس صاحب تجارب ناجحة لكنه متواجد دوما في الوسط الصحفي. سيتعاونا معا برفقة فريق أخر من الصحفيين قد يصل إلى 6 من أجل إصدار الاعداد التجريبية من جريدة جديدة اسمها الغد وصولا إلى العدد زيرو الذي يسبق طرح أول عدد فعلي من الجريدة في الأسواق. في الاجتماع الأول يجتمع الفريق معا، جميعهم باستثناء سيماي وكولونا يعرفون الغرض الرئيسي من الجريدة.

صاحبها رجل أعمال إيطالي فاسد يريد إصدار الأعداد التجريبية من الجريدة بهدف أن يدرك منافسوه ورجال المافيا ومسئولو الدولة أنه سيكون لديه جريدة عن قريب، وهكذا يمكن أن يستخدمها وسيلة لتصفية منافسيه وابتزازهم وللوقوف في وجه الدولة حينما يتطلب الأمر ذلك. لكن الجريدة لن تصدر أبدا. عددها الأخير سيكون هو العدد صفر. المفارقة أن الجريدة اسمها الغد.

هذا ما يعرفه كولونا وسيماي ورجل الأعمال، لكن باقي الفريق من الصحفيين الذين جاءوا في حماس شديد من أجل أن يمارسوا الصحافة التي يحبونها بعيدا عن صحافة محلات الحلاقة والنميمة لايعرفون ذلك. فما الذي سيحدث في الاجتماعات التحريرية التي ستجمع بينهم؟

سيفتتح “سيماي” الحديث معهم قائلا “أبي عودني ألا أصدق الأخبار كما لو كانت منزلة. الصحف تكذب والمؤرخون يكذبون واليوم التلفزة تكذب أيضا. أرايت نشرات الأخبار في السنة الماضية (يقصد 1991) في أثناء حرب الخليج. صورة الغاق المطلخ بالقطران وهو يحتضر على سواحل الخليج العربي؟ لقد تأكد بعد ذلك أنه في هذا الفصل يستحيل أن يتواجد طائر الغاق في الخليج وأن الصور تعود إلى ثماني سنوات قبل ذلك أثناء الحرب بين العراق وإيران”

هذه أراء توحي بأن الجريدة ستكون ثورية ولا تقارن بما سبق من صحف إيطالية نخرها الفساد والصفقات. لكن عند بدء العمل الفعلي في الأعداد التجربية تتبين أهداف سيماي وصاحب المال تدريجيا “الأبراج.. يا إلهي.. الناس لايحبون أن تقولي لهم أنهم في الشهر التالي سيصابون بالسرطان. اصنعي تنبؤات تماشي جيدا أحوال الناس جميعا. أعني أن قارئة في سن الستين لن تتفاعل مع نبأ مستقبلي مفاده أنها ستعثر على حبيب عمر في مقتبل الشباب”.

ليس هذا فحسب خذ هذه أيضا، يقول رئيس تحرير الجريدة التي لن يقرأها القارئ أبدا “إذا تحدثنا عن مقتل فالكوني (قاض قتلته المافيا) كان علينا أن نتحدث عن المافيا وأن نعيب تهاون قوات الأمن وأشياء من هذا القبيل بضربة واحد سنصبح أعداء الشرطة والحرس و كوز نوسترا (اسم آخر للمافيا الصقلية).. في العادة أكثر الحلول حذرا.. هو الالتجاء إلى ماهو عاطفي، كإجراء حوار مع الأقارب. لو انتبهتم قليلا لرأيتم أن قنوات التلفاز أيضا تفعل ذلك.عندما يدقون جرس باب منزل الأم التي أذابوا ابنها في العاشرة من عمره في الأسيد: سيدتي، ماذا كان شعورك عندما علمت بموت ابنك؟ تبتل عيون الناس بالدموع ويذهب الجميع راضني.

هناك كلمة ألمانية رائعة schadenfreude تعني الاستمتاع بمآسي الغير. هذه هي العاطفة التي ينبغي للجريدة احترامها وتعزيزها”.

ثم وعندما يتناقشون حول كيفية مناقشة قضايا مثيرة لجذب القارئ كالحديث عن تجمعات الشواذ مثلا، يقول “لست أفكر في اللوطيين بصفة عامة ياجميلتي أنا أؤمن بالحرية كل وشأنه ولكنهم موجودون في السياسة والبرلمان وحتى في الحكومة يظن العامة أن اللوطيين هم الكتاب وراقصو البالية فقط، لكن بعضهم يحكموننا دون أن نطن إليهم. إنهم يكونون مافيا ويتعانون فيما بينهم وهذا يمكن أن يجرب مشاعر قرائنا.. ماذا يمكنك أن تقول عن اللوطيين في السياسة لكن حذار دون ذكر اسماء لانريد المثول أمام المحكمة يكفينا تحريك الفكرة، أو الشبح، إحداث رعشة، حس بالنفور..”

هل لاحظت أن هذا منهج صحفي مصري أصيل؟ هل تم اقتباسه من إيطاليا أم نقله الإيطاليون من مصر؟ أم أن ما يجمع بين مصر وإيطاليا ليس البحر المتوسط فقط وإنما أساليب التجارة بالصحف والناس لصالح رجال المافيا مهما كانت اسمائهم وجنسياتهم.. مصري أو إيطالي؟

الموضوع ليس صدفة فعلا، خذ هذ المقتبس من الرواية والذي يتحدث عن طريقة صناعة العناوين للموضوعات(يقول برجادوتشيو “غضب موسكو؟ أليس مبتذلا أن نستعمل دائما عبارات تفخيمية مثل هذه، غضب الرئيس، غضب المتقاعدين إلى غير ذلك”. لا. أجبته “القارئ ينتظر بالفعل هذه العبارات. لأن كل الصحف عودته إياها. القارئ لايفهم إلا إذا قلت له إننا لم نخرج بعد من عنق الزجاجة. والحكومة تنذر بالدموع والدماء والطريق في صعود والرئاسة مستعدة لخوض حرب .. لا للشيطنة.. نحن في عين الأعصار.. قوات الأمن تصرفت بكل مهينة).. كما مرة –بذمتك- قرأت هذه العناوين في صحف مصرية عتيدة وشابة؟

خلال الأحداث ينجذب كولونا إلى مايا الصحفية الشابة المسكينة التي وجدت نفسها فجأة في قلب هذا “الماخور الصحفي”، تجد نفسها بدورها منجذبة إليه، يتطور حبهما أكثر بالتزامن مع ذلك الكشف المثير الذي يصل إليه برجادوتشيو الصحفي النشط ضمن فريق الغد، والذي يكلفه رئيس التحرير بعمل تحقيق عن “مواخير إيطاليا القديمة” لكنه مشغول بقضية عمره ويكشف بعض من تفاصليها لكولونا. الدوتشي لم يقتل في الحرب العالمية الثانية.موسوليني لم يتم إعدامه في ساحة لوريتو كما تم الإعلان عن ذلك بعد خسارة إيطاليا للحرب عام 1945. قتل شبيه له. وتم تهريب موسوليني إلى الأرجنتين عبر الفاتيكان تمهيدا لأن يعود ويحي الفاشية من جديد عندما تصبح الظروف ملائمة وكاد أن يفعل ذلك فعلا في 1969 مع نشاط كبير لإحدى الجماعات السرية التي ترعف باسم “البقاء في الخلف” تريد أن تستعيد أمجاد الفاشي عبر انقلاب عسكري ترتج له إيطاليا لكن خطة عودته فشلت في آخر لحظة بعدما تراجعت بعض المؤسسات المتواطئة في الدولة مع الانقلاب عن القيام بدورها.

يحذره كولونا من الاستمرار في التحقيق لأنه يثبت تورط بعض امؤسسات الدولة القائمة في المؤامرة، يستمر بروجاوتشيو في سعيه، حتي يعثرون عليه مقتولا في أحد شوارع ميلانو الضيقة، لتكون وفاته سبب كافيا لأن يغلق رجل الأعمال جريدته وهي لم تصل بعد إلى العدد صفر، وليجد كولونا وحبيبته مايا أن سبيلهما الوحيد للحياة هو أن يغادرا ميلانو إلى إحدى الجزر الإيطالية ليراقبوا بلادهم وهي تتحول تدريجيا إلى دولة من دول العالم الثالث الذي يتعايش فيه الضحايا مع القتلة وهم يقرأون الصحف في هدوء دون ان يدروا بأن بعض هذه الصحف تساهم في قتلهم دون أن حتى أن يصدر منها ذلك العدد الصفري.
الرواية: العدد صفر
المؤلف: إمبرتو إيكو
المترجم: أحمد الصمعي “عن الإيطالية”
دار النشر: دار الكتاب الجديد – لبنان 2017
زاوية أخرى: رواية اسم الوردة ترجمت إلى أكثر من 47 لغة وباعت ملايين النسخ، وتحولت إلى فيلم من بطولة شون كونري عام 1986