10 ملامح إنسانية في مسيرة "حسن أرابيسك"

رباب طلعت

“رغم الظلام الذي اكتنف حياتي ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي إلا أنني لست آسفا على شيء، فلقد كانت تلك الأيام هي حياتي، ومن عين تلك الأيام ومن رحيق تلك الليالي خرج إلى الوجود ذلك الشيء الذي هو أنا”-محمود السعدني-، كلمات اختصرت حياة وسلوك ومواقف “الولد العترة”، أو “العمدة”، كما يحب أن يُلقب، فهو “ابن البلد”، الذي لا تعنيه الوسامة في شيء، فـ”الجدعنة” أبقى، وحكايات الشوارع المرسومة في ملامحه أصدق، فهو “حسن أرابيسك”، و”سليمان غانم”، و”الدكتور عزيز محفوظ”، وأخيرًا “عبد القوي”، صلاح السعدني.

على قهوة “محمد عبدالله”، في ميدان الجيزة، وسط حشود الأدباء والشعراء والمثقفين، يصطحب الصحفي محمود السعدني، شقيقه الأصغر، والوحيد في أشقائه الـ10 الآخرين، الذي أكمل تعليمه الجامعي، ليجالس رموز عصرهم، يوسف إدريس وزكريا الحجاوي، ونعمان عاشور، ويتلقى منهم الحكمة دون مقص الرقابة، أو عصا السياسة، ليخرج من تحت أيديهم شابًا يافعًا، عاقلًا، لينبت بداخله الفن، مزيج الإحساس والثقافة، الحرية والرسالة، وتحركه أحلامه، دون قيود، ويفصح عنها بلا تردد، ويندفع في الحياة، بعفويته.

صلاح السعدني، الفنان هو الإنسان، فالثانية خلقت الأولى، وأثرت على اختياراته، التي عكست حياته، فمنذ الفرصة الأولى التي أعطاها له عادل الإمام، زميله في كلية الزراعة، ورئيس مسرح الجامعة وقتها، بتجسيد دور في مسرحية “ثورة الموتى”، والذي أخبره بأنه قُبل في الدور، أثناء مقابلته صدفة في ميدان الجيزة، ليصيح فرحًا: “صحيح يا أستاذ؟”، ومن بعدها ارتبطا بعلاقة صداقة قوية، جعلت “السعدني”، يسخر وقته لأداء دور الزعيم في “مدرسة المشاغبين”، لـ3 أشهر لإصابة الأخير بالتهاب الكبد الوبائي، الذي أجبره على المكوث في المستشفى والتغيب عن دوره، وجعله بعد سنوات طويلة، يصرح بأن “الزعيم” هو الفنان الوحيد في جيله الذي حافظ على نجوميته، بل وتغلب على “الريحاني” من وجهة نظره.

https://www.youtube.com/watch?v=E0F1ScnbfUw

لم يكن السعدني بالنسبة لأصدقائه فنانًا بل صديقًا وفيًا، وإنسانًا مرهف الحس، فعلاقته بصديقه نور الشريف، كانت بسيطة يرويها الفنانان في موقفان، أحدهما عند بداية حياتهما الفنية، عندما نسي “الشريف” أن يخبر عمته، بأن السعدني سيشاركهم إفطار إحدى ليالي رمضان، ويتفاجئ عندما يراه على الباب ويكتشف أنه لا يوجد في المنزل إلا “فول بالأوطة”، ليتوجه الاثنان لصديقهما الثالث نبيل الهجرسي، ويفطران عنده “لحمة”، وفي مرة أخرى تظهر أصالة “السعدني”، وحبه لصديقه وعدم غيرته منه، فبعد نجاح “الشريف”، في فيلم “السراب”، الذي شجعه بدوره على خوضه، ليصبح أكثر شهرة من العمدة، الذي سبقه في التمثيل، فعزمه الأخير، قائلًا: “هعزمك بس مش معايا فلوس، هناكل شكك”، ليحتفلا بنجاح نور.

 

عادل إمام ونور الشريف وسعيد صالح، ومحمود عبدالعزيز، ومحمود متولي، وأبو بكر عزت، وقائمة طويلة من الأصدقاء، الذين أخلص لهم “السعدني” في حياته، بل شاركوه كنبته الشهيرة، في شارع أحمد عرابي بالمهندسين، والذين خصص لهم الكاتب بلال فضل حلقتين من برنامج “الموهوبون في الأرض”، كاشفًا خلالها تعلق “السعدني” بهم، بل تأثره الشديد أيضًا، فشخصيته الأشهر كـ”سليمان غانم” في “ليالي الحلمية”، أخذ لزماتها الكوميدية من صديقه المحامي سعيد زينهم.

بالرغم من تأخر صلاح السعدني عن أصدقائه، الذي كان تفوق عليهم في أواخر الستينات، خاصة في التلفزيون، الذي أحبه أكثر من السينما، بسبب قرار أنور السادات بمنع التلفزيون من التعامل معه على خلفية حبس شقيقه الكاتب الصحفي محمود السعدني، عامان على خلفية اتهامه بقضية “مراكز القوى- قلب نظام الحكم”، ورفده من الاتحاد الاشتراكي الذي كشف أنه لم يكن عضوًا فيه من الأساس، بل ووضعه في قائمة مع 44 اسمًا، على رأسهم توفيق الحكيم وصلاح عيسى ويوسف إدريس، إلا أنه أخذ الموقف بقوة واصفًا إياه بأنه “إرادة ربنا”، بل شيء يدعوه للفخر لكتابة اسمه وسط “أعمامه” كما وصفهم، مؤكدًا على سعادته بوصول أصدقائه لما وصلوا إليه، بمجهودهم، وموهبتهم، ولم يجعل الغيرة أو الحقد يتغلغل في نفسه لحظة.

بعد عودة “السعدني” للتلفزيون بعد تلك الحادثة، ظل بداخلة الفنان الذي قدم مجموعة من أروع كلاسيكيات التلفزيون المصري، على رأسهم دور “حسن أرابيسك”، الذي ولشدة حبه في فنه، بحث عن أحد “صنايعية” الأرابيسك في خان الخليلي، ليصل إلى علي حمامة، الذي روى لإسعاد يونس في “صاحبة السعادة” أن صلاح أتقن الدور كأنه “صنايعي زيه وابن بلد”، كاشفًا أنه دخل معه الورشة ليتعلم مفردات اللغة، بل وعمل بيده ليتقنها.

لم تقتصر إنسانية “السعدني” على علاقته بأصدقائه فقط، بل امتدت لمن لا يعرفهم، فالمخرج خالد جلال، يروي في شبابه، وهو لم يتجاوز الـ28 من عمره، عن دور “العمدة” في فتح طريق المجد له، فأثناء تواجدهما في مكان واحد، ذهب “السعدني” له متسائلًا: “أنت فلان” ليجيبه بنعم فيأخذه معه في العرض الخاص لفيلم “عرق البلح” ويسأل شريهان “تعرفي ده؟” فتجيبه بالنفي فيمازحها “يبقى متعرفيش حاجة ده أكبر مخرج مسرحي دلوقتي”، ويعيد الموقف مع محمود حميدة، وسط تعجب المخرج، الذي يشكره عند خروجهما، ليفاجئه الفنان باختياره لإخراج مسرحية “لما بابا ينام”، على مسرح عصام إمام، ويعتذر بعدها عنها، بعد توقيع المخرج، الذي أراد بدوره الانسحاب خجلًا من الموقف، ليخبره بأن تلك فرصة عمره ولا يجب أن يتركها.

https://www.youtube.com/watch?v=QMWBp_2myCY

حتى وهو في ذروة خضرمته الفنية، ظلت الإنسانية بداخله، فبعد ضربه لملك أحمد زاهر، في أحد مشاهد “القاصرات”، فاجئها بتقديمه “شوكولاته” لها لمصالحتها، وتشجيعها، طوال التصوير، بحسب تصريحها لمجلة “أنا زهرة” وهو المسلسل أيضًا، الذي صوره تأثرًا بزواج والدته وهي لم تكمل الـ11 من عمرها، ما تسبب في موت 4 من أبنائها لعدم استطاعتها الاعتناء بهم.

“السعدني” الإنسان أيضًا، هو خليط بين المثقف والمرح وابن البلد و”الأهلاوي” المحب لفريقه منذ 50 عامًا، والمشجع له حد الجنون، لدرجة أنه كان يحرص على مساندته وسط الجماهير في الاستاد، في المباريات الهامة، إذا لم يشاهدها من على “الكنبة” الكبيرة المواجهة للتلفزيون في منزله، مع صديقه الراحل، محمود متولي، الذي يتابعها في بيته هو الآخر، ولكنهما يتبادلان الهواتف، وتوقعات الأخير الصائبة دائمًا، بأن خلال 5 دقائق سيحرز فريقهما الهدف، كما كشف بلال فضل، في إحدى حلقات برنامجه “الموهوبين في الأرض”، كاشفًا أيضًا عن أحد المواقف الكوميدية، التي تعرض لها ثلاثتهم، عندما قرروا الخروج في إحدى مقاهي المهندسين، ومرورهم على نادي الزمالك، أثناء فوزه في إحدى المباريات، ليراهم أحد الجماهير المحتفلين فيهتف للآخرين الذين اندفعوا على السيارة المعروف بأن ركابها “أهلاوية متعصبين”، لينجدهم “متولي” بفكرة، ويخبر “السعدني” بأن يستخدم “كلاكس” السيارة، ويهتف الثلاثة “بيب بيب زمالك” وسط ذهول الحشود التي ابتعدت عنهم، فاتحين طريق، هربوا منه.


تأثر السعدني كثيرًا بتربية شقيقه الأكبر محمود السعدني، الذي صرح في إحدى الإذاعات بأن أصعب اللحظات التي مرت عليه هي وفاته في 2010، وهو نفس العام الذي اتهم فيه نجله بقتل أحدهم، فتأثرت أدواره بفكره الفلسفي، في مشاهد لا تنسى، منها في فيلم “شحاذون ونبلاء”، عندما خطب بطلابه قائلُا: “أنا اتفق معكم أننا من الممكن أن نزيف في التاريخ، لكن هل من الممكن أن نكذب في الجغرافيا؟ أقول نعم، فقد أقاموا حدودًا مصطنعة في هذا العالم، حدودًا متعسفة، أضاعت هذا الكيان”، لقد أصبحت الأكاذيب هي الحقيقة”.

https://www.youtube.com/watch?v=PHidJPObuqw

أيضًا أثرت نشأته في كنف شقيقه على مواقفه الإنسانية ونظرته في الحياة، ففي كلمته مثلًا في حفل تكريمه في المركز الكاثوليكي، جعل الجميع يقف احترامًا له، يحيونه على كلماته المؤثرة، في إدانة حوادث الطائفية، مؤكدًا أن المصريين من قبل الرسالات السماوية، وحدهم توت عنخ آمون على عبادة إله واحد، هو “الله لا إله إلا هو”، ويجب أن يفهم الجميع ذلك، وهو المشهد المقارب تقريبًا، لأحد مشاهد “حلم الجنوبي” وهو يحتمي من ضعفه، وسط أفكار الآخرين بين معابد الحضارة الفرعونية.

https://www.youtube.com/watch?v=bVtqSiWUavA

كذلك أثرت تلك النشأة على فلسفته في أعماله كافة، والذي لخصها في نظرية “الصفحة الأخيرة من الأهرام”، والتي يرى فيها أن كافة الفنانين عندما يتوفون، تعرض جريدة “الأهرام” الورقية في صفحتها الأخيرة نعي لهم مصاحب لأعمالهم الفنية، مؤكدًا على فخره بما قدم، وما سيكتب فيها.

https://www.youtube.com/watch?v=QMWBp_2myCY