عبد الرحمن أبو زهرة.. أسطورة بأثر رجعي

يقول عبد الرحمن أبو زهرة ” أنا قلت 3 جمل وأنا مجهول للمشاهدين في دار الأوبرا فصقفوا، وواحد في الصالة بعدها سمعته قال (يا عيني الواد ده نفسه يمثل). كنت حاطط كل مشاعري فيهم، مانساش الجملة دي أبدا. ” ربما مر على هذا الموقف أكثر من 50 عامًا، تحول خلالهم هذا “الواد المجهول” اللي نفسه يمثل، لفنان كبير ملء السمع والأبصار.

مسيرة فنية مهولة عمرها أكثر من نصف قرن، قدم خلالها كمًا لا يصدق من الأعمال الفنية، ولم يكن اهتمامه بالكم على حساب الجودة أو القيمة الفنية فالكثير من أعماله تحولت لأيقونات فنية خالدة، والغريب أنك عندما تتأمل مشواره، تجده لم يترك أى مجال له علاقة بفن التمثيل، دون أن يضع عليه بصمته الخاصة، من المسرح، للسينما، للدراما التلفزيونية، ومن برامج الأطفال للإذاعة، حتى الأداء الصوتي “الدوبلاج” لأفلام ديزني العالمية.

 

وهو ما يكشف حجم الموهبة، والشغف، والقدرة على التميز، والرغبة في التنوع، ويبقى العنوان الأبرز لمسيرته، وهو العمل في دأب وصمت. لم يتوقف يومًا بحثًا عن تقدير أو نجومية وشهرة، أو يسعَ لأخذ مساحة من الأضواء يستحقها بكل تأكيد. هو مثال حي ونموذح لفنان ترك عمله فقط يتحدث عنه فكافأته السماء في النهاية بمحبة وتقدير وشهرة من حيث لم يكن يدري ولا يحتسب.

 

نرشح لك .. أسباب عودة “المعلم سردينة” عبر السوشيال ميديا

1- صندوق الدنيا وكان ياما كان

يغني الأطفال “يا شمس نونو صغيرة.. هتروحي فين جنب الرياح، وهتيجي إيه جنب الهوا ” ليكمل أبو زهرة صارخًا “أنا الهوا”، انتصرت الشمس في نهاية هذه الأغنية التي ما زالت عالقةً بالذاكرة، رغم أنني لا أتذكر بقية كلماتها، وهي من إحدى حلقات مسلسل الأطفال “بندق وبندقة”، بحثت عنها كثيرًا على “يوتيوب” وغيره من المواقع ولم أجدها للأسف.

 

كنت من جيل محظوظ تربى صغيرًا على يد عمالقة مثل فؤاد المهندس ومسلسله الأشهر “عمو فؤاد” وعبد المنعم مدبولي وحلقات “جدو عبده” والعديد من برامج ومسلسلات الأطفال التي لن يتسع المجال لذكرها جميعًا. كان هناك اهتمام بالطفل لم يعد موجودًا الآن، وعن هذا يقول أبو زهرة: “أحد أصدقائنا القدامى وواحد ممن شكلوا وعينا في مرحلة مبكرة، مرة سألوني، إيه أحلامك؟ وأنا لسه شاب، قلتلهم أتخصص للطفل. قد إيه كنت حاسس إن الطفل ده مسئولية جامدة، ولازم نرصد لها أموال وممثلين وإخراج جامد. إحنا هنا بنعتبره آخر حاجة، آخر ميزانية، مخرجين متواضعين، ممثلين أي كلام يعني مع احترامي الشديد لبعضهم إنما كسر “.

ولكن هذا الإهمال لم يمنع أبو زهرة من تحقيق جزء كبير من حلمه: “عملت مع المخرجة سهير شعراوي برنامج (صندوق الدنيا) 24 سنة، لدرجة أننا في يوم عملنا احتفال للأطفال اللي كانوا معانا، وجبناهم، اللي بقى مهندس ودكتور ومحامي. شوفي الفن بيعمل إيه؟، بيربى أجيال، مسيرة عظيمة والمدهش أنها ما زالت مستمرة ليومنا هذا،  أنا بعمل برنامج (كان ياما كان) لغاية دلوقتي، سعيد بيه جدًا، بيعلم الأطفال القيم التي تكَوِن مواطن صالح”.

كان هذا ليكفيه تمامًا وسيكون قد أدى ما عليه لو لم يقدم غيره، ولكن، من قال أنه يكتفي؟، وكيف يكتفي من يملك شغفًا بالفن ليس له حدود؟!

2- المسرح ” أبو الفنون “

لا يتكلم عبد الرحمن أبو زهرة بحب مثلما يتكلم عن المسرح. يتذكر أيام الدراسة بالمعهد وبدايات المشوار، ولحظات الانطلاق الأولى، ليصبح بعد ذلك أحد أعمدة المسرح القومي في عصره الذهبي في الستينات، وتعامله مع أهم مخرجين هذه الفترة مثل سعد أردش وكرم مطاوع، والأخير يعتبره أبو زهرة أهم مخرج مسرحي على الإطلاق.

ستجده مشاركًا في أهم أعمال تلك المرحلة، مثل “الفرافير” و “السبنسة” و “ياسين وبهية” و “حلاق بغداد”، وغيرها من الأعمال المهمة. وله تجارب متفردة في المسرح يقول عنها: “عملت تجربة الـ one man show في مسرحية النفوس العارية. ساعتين ونص لوحدي على المسرح، بتكلم وبمثل.. نجحت نجاح عظيم”.

 

وتجربة “مسرح القهوة “، عملت تجربة كان نفسى تُعمم، قلت ليه المشاهد ييجي المسرح؟ ماروحلوش ليه؟ فعملت مسرح القهوة، وكانت قهوة متاتيا دي قدام المسرح القومي، وعملت مسرحية وكانت المشاهدة بالمشروب، وبالطبع لم تستمر التجربتين كثيرًا، فأي فكرة مبتكرة أو مختلفة عن السائد لدينا، غالبًا ما تكون قصيرة العمر حتى ولو كانت ناجحة”.

3- تاريخ أكبر من إبراهيم سردينة

رصيده الدرامى تجاوز أكثر من 160 مسلسلا، وهو رقم قد لا يتخيله بعض ممن يلخصون مسيرته مع التلفزيون بشخصية “الحاج إبراهيم سردينة”، والتي قدمها في أحد أنجح الأعمال الدرامية في آخر 25 سنة، مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”.

 

بدأ عبد الرحمن أبو زهرة مسيرته الدرامية منذ بداية السبعينات ولكنه منذ مشاركته في مسلسل “صيام صيام ” عام 1981 تحول لضيف دائم، يدخل إلى كل بيت في مصر من خلال الشاشة الصغيرة، فكان استمراره كل ذلك الوقت، دليلا على محبة الناس وتقديرهم لما يقدمه من فن راقٍ، فلا يطيق المصريون ضيفًا لأكثر من 30 عاما إلا إذا كان “ضيفا خفيفا” يأسر قلوبهم بحضروه ويفتقدونه إذا غاب.

 

نادرًا ما قد تصادف مسلسلاً دينيًا أو تاريخيًا دون أن تجده مشاركًا به، فهذا ملعبه الخاص، ستجده حتى في “ألف ليلة وليلة” و”السيرة الهلالية “. تألق بشكل خاص في السنوات الأخيرة مع ليلى علوي في “حكايات وبنعيشها ” و”فرح ليلى”. قدم شخصية سعد زغلول في مسلسل “الملك فاروق”، والرئيس محمد نجيب في مسلسل “ناصر”، وهما من أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ مصر الحديث. إبرهيم سردينة ليس إلا تتويجًا لمسيرة شاقة و “قطعة كرز” كافأ بها القدر عبد الرحمن أبو زهرة، ولكنه ليس كل شيء، فتاريخه الدرامي أكبر من هذا الدور بكثير جدًا.

4- الإذاعة وأفلام ديزنى

ربما لا يوجد في مصر الآن فنان يمتلك صوتًا مميزًا، لا تخطئه الأذن وقادر على توصيل المعنى والإحساس بأداء رفيع، مثل عبد الرحمن أبو زهرة. منحة وموهبة ربانية أجاد الفنان الكبير توظيفها، ولهذا التميز أسرار أخرى، يقول عنها: “في الإذاعة، صوتك هو اللي بيبين شخصيتك، وبيبين حتى لبسك اذا كنت غني ولا فقير، التعبير الصوتي بيحمل الديكورات والإضاءة اللي بتبقى على المسرح وفي السينما والتلفزيون”.

 

تاريخه في الإذاعة حافل بالكلاسيكيات، وأعماله بها لا تُحصى، تميزه جعله ينطلق في منطقة أرحب، عندما اشترك بالأداء الصوتي في بطولة بعض أفلام ديزني العالمية، عندما كانت ” تُدبلج ” باللهجة المصرية. قدم ببراعة شخصية الساحر جعفر في فيلم “علاء الدين”، والأسد سكار في فيلم “الأسد الملك”، والأخير تحديدًا أصداء نجاحه ما زالت متجددةً وعالقةً بالأذهان حتى اليوم.

5- موسى رسول أرض الخوف

حوالي 30 فيلما هو كل رصيده السينمائي، ما بين أدوار صغيرة في البدايات، وأدوار أخرى صغيرة ولكنها أكثر تأثيرًا في السنوات الأخيرة، كانت مسيرته السينمائية القصيرة والتي لا تليق بحجم موهبته الكبيرة.. بنظرة ثاقبة لا تخطئ، اختاره داود عبد السيد ليؤدي دور عمره، “موسى” في فيلم أرض الخوف أمام العملاق أحمد زكي.

ظهور خاطف ولكنه مؤثر، ومشاهد قليلة ولكنها كانت كافية لترك بصمته الخاصة، بعبقرية لا ينساها كل من شاهد هذا الفيلم الممتع، وكأنه بهذا الأداء المتفرد أراد أن يثبت للسينما أنها هي من خسرت عبد الرحمن أبو زهرة وليس العكس. وهو لا يخفي شعوره بالمرارة عند حديثه عن السينما: “أنا خدت جوايز في السينما، بس مُقِل، لأنهم مافكروش فيا، هعملهم ايه؟ هروح أخبط؟”.

 

 

كم من مبدع لدينا أفنى حياته في سبيل إسعادنا وإمتاعنا بفنه وإبداعه، ولم نشعر بقيمته أو نفكر في تكريمه والاحتفاء به إلا بعد رحيله عن عالمنا، ليرحل دون أن يعرف كم نحبه ومدى “غلاوته” عندنا. هي مأساة تتكرر بشكل دائم، ومن المبهج أن نرى لها استثناءً، مثلما حدث مع الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة- أطال الله في عمره- والذي تحول مع أواخر العام الماضي للنجم الأول لصفحات “فيس بوك”، بفضل شخصية إبراهيم سردينة والتي أعيد إحياؤها من الماضي كما يليق بالأساطير التي لا تُنسى.

 

لا يخفي عبد الرحمن أبو زهرة سعادته وامتنانه لكل هذه المحبة التي تدفقت عبر صفحات “فيس بوك” فيقول: أنا سعيد بيها سعادة، لأن ده دليل إعجاب وحب، أنا مش مصدق أن هذا الحب الجارف مُوجَه لعبد الرحمن أبو زهرة، ده شيء جميل ورائع “. فشكرًا للسوشيال ميديا والتي برغم سلبياتها الكثيرة، إلا أنها لا تخلو من أشياء جميلة وإيجابية، ويكفي أنها كانت سببًا في إسعاد فنان عظيم وجميل لطالما أسعدنا.

 


مصادر:

– حوار الفنان عبد الرحمن أبو زهرة لموقع ” المنصة ” تحت عنوان .. في عيد ميلاده ” أبو زهرة يروى حكايات الخجل والفن والفيس بوك ”

– لقاء الفنان عبد الرحمن أبو زهرة ببرنامج ” الستات ما بيعرفوش يكدبوا ” على قناة cbc