محمد حمدي سلطان يكتب : الست بتاعة البيض

لا أذكر متى رأيتها أول مرة، فكأنها كانت تأتى إلى منزلنا منذ الأزل. رأيتها وأنا مجرد طفل يبدأ رحلة إدراكه لوجوده وللأشياء من حوله، وظللت أراها حتى تجاوزت العشرين بعام وأكثر. ستة عشر عامًا أو يزيد قليلاً لم تنقطع خلالها عن الإتيان لمنزلنا لتبيع لأمى ما لديها من بيض وجبن وزبدة.

تركنا بيتنا القديم في بداية عام 98 وذهبنا إلى بيت آخر لا يبعد كثيرًا​ عن الأول، إلا أننا لم نجد أحدًا يتذكرنا أو يحرص على زيارتنا من جيراننا القدامى، ولم يبقَ شيئ ليذكرنا بهذا الماضى القريب سوى هذه المرأة التى لم تنسانا، وظلت حريصةً على طرق أى باب تعلم أنها ستجد أمى خلفه، وكأننا أصبحنا طقسًا ثابتًا فى حياتها لا تستطيع أن تعيش بدونه، ولا أعتقد أن هذا الحرص يرجع فقط لكوننا زبائن قدامى لا تريد أن تخسرهم، فلم تكن تكسب من ورائنا الشىء الكثير.

أنا أعرف تمامًا لماذا أكتب عن هذه المرأة، ولكنى لا أعرف كيف أكتب عنها، وأجد مشقةً وصعوبةً كبيرةً وأنا أحاول أن أصف بالضبط ما أشعر به تجاهها. أسرح وأنا أحاول ترتيب الكلمات والأفكار، أستعيد ذكريات الماضى لعلى تذكرت موقفًا ما يصلح كبداية للحديث عنها. أثناء كل ذلك لا يطاردنى سوى وجهها ونظرتها الحزينة وكلماتها القليلة التى بقيت في الذاكرة.

يبدو أننى وجدت الحل أخيرًا. كان يجب أن أفهم منذ البداية، أنه لن تصلح أى بداية للحديث عن هذه المرأة سوى أن ابدأ بالكلام عن وجهها. ذلك الوجه الذى لم أرَ في حياتى مثله. لو سألنى شخص ما عن أصدق ما يعبر عن الحزن في هذا العالم، لأجبت دون تردد : وجه هذه المرأة. وجه يبدو عاديًا جدًا ولكنه يحمل ملامح حزن غير عادى، حزن أصيل وحقيقي وراسخ كالجبال، يبدو وكأنه ينبع من أعماق روحها.

كثيرًا ما سألت نفسي، أى مأساة تعيشها هذه المرأة لكى يسكنها كل هذا الحزن وأى أهوال رأت لكى تتكحل عيناها بكل هذا الأسى ؟ أم أن هذا الوجه المنحوت المتفرد، والذى أبدع الله في خلقه لم يكن ليليق به إلا هذا الحزن الجليل الذى يزيده هيبةً وجمالًا وشموخًا. هذه المرأة تقريبًا لم تكن تتكلم إلا للضرورة القصوى. لو كنت في أقصى حالات السعادة بمجرد أن تطرق الباب وأفتح لأجدها أمامى يركبنى الهم وأشعر بفيض من الحزن يجتاح روحى. أرتبك لثوانى، تنظر إلىّ ودون أن تسأل. أرد على نظرتها بابتسامة باهتة مرتبكة وأنا أقول ” أمى مش هنا ” لترحل فى صمت ودون أن تنطق بكلمة واحدة، لأغلق خلفها الباب وأنا أقاوم رغبة ملحة فى أن أجرى خلفها لأواسيها ولا أدرى عن ماذا تحديدًا قد أواسيها، لكنها فعلا بتبقى ” صعبانة عليا ” رغم أننى لا أعلم أيضا ليه بتبقى صعبانة عليا !

كانت تأتى في أحيان أخرى وتجد أمى بالمنزل، وكنت أستمتع بمراقبتهم وهم يتحاورون على الباب. ذلك الحوار الذى غالبًا ما كان يأتى من طرف واحد، فأمى هى من تتحدث وتسأل وتفاصل في السعر، بينما المرأة التى تسند جسمها على قدميها دون أن تجلس تمامًا، لا ترد سوى بكلمة أو كلمتين، وأحيانا تكتفى بهزة رأس أو ابتسامة مبتورة. في النهاية تحصل أمى منها على ما تريد -والمرأة راضية تمامًا- وتعطيها جزءً بسيطًا من حسابها وتؤجل البقية للمرات القادمة.

هكذا كان التعامل بينهم، وهكذا كنا طوال الوقت مديونين لهذه المرأة فلا ينتهى حساب قديم قبل أن يكون هناك واحد جديد غيره. كثيرًا ما كانت تأتى إلينا وهى ترتدى جلبابها القديم المتهالك وبغطاء رأسها البدوى، وتحمل في يدها ” حلة البيض ” وهى فارغة في نهاية يومها، أفتح الباب لأجدها أمامى، أنده أمى لتسألها المرأة بلهجتها المميزة وبنبرتها المنكسرة شديدة العذوبة والبساطة سؤالها الأثير الخالد المتكرر – والذى مازال يرن في أذنى حتى الآن- ” مامعكيش حاجة ليا ” هذه الجملة لم تتغير قط، ولم تطالبنا يومًا بحقها سوى بكل هذا الحياء والخجل والتواضع وبصوت أقرب إلى الهمس، وكثيرًا ما كانت أمى تردها خائبة بعد أن تعتذر لها ” معلش ابقى تعالى كمان يومين ” ولم يكن هذا بخلا من أمى أو استهانةً بقدر المرأة، ولكنها ظروف البيت والتى كنت أعلمها جيدًا بصفتى واحد من أفراده.

في إحدى المرات فوجئنا بالمرأة تبدى ضيقًا وتبرمًا على غير العادة، وهو ما جعل أمى تعطينى عشرة جنيهات على ما أذكر وتطلب منى أن اذهب وراءها لأعطيها للمرأة. جريت خلفها في الشارع وأنا أنادى ” يا حاجة يا حاجة ” نظرت خلفها ووقفت تنتظر بعد ما رأتنى قادمًا نحوها، اقتربت منها وأنا أقول وسط لهاثى ” أمى بتقولك خدى دول ” أخذتها بصمتها المعتاد وأن كنت قد لمحت شبح ابتسامة يتراقص على شفتيها،

تركتنى وعدت أنا إلى المنزل منتشيًا، أشعر وكأننى قد فعلت أهم شىء في العالم، أو ربما كان سر سعادتى هو تحقيقى لرغبتى القديمة بالجرى خلف هذه المرأة.

رحلت أمى وبعدها بأيام قليلة جاءت إلينا المرأة التى فوجئَت بأجواء الحزن والحداد. لم تُعزنا بكلمة ولكن ملامح الإنكسار والصدمة على وجهها، كانت تحمل لنا كل العزاء الصادق. استقبلتها شقيقتى وهي تغالب دموعها، سألناها عن حسابها القديم لكنها أجابت ” مالياش حاجة ” رغم أننى كنت شبه متيقن بوجود حساب لم ينتهِ. ألححنا عليها لكى نسد دين أمى، لكنها أصرت على موقفها فلم نملك إلا أن نأخد منها كمية من البيض وأعطيناها ما يزيد عن قيمتها. هى لم تهتم بعدد ما أخذنا وما أعطينا وكانت تستعجل الرحيل، قبل أن تمشى طلبت منها شقيقتى أن تأتى دائمًا لأنها تذكرها بأمى وحاجة من ريحتها.

لكن هذه المرأة الطيبة لم تأتِ أبدًا إلى منزلنا مرةً أخرى، بعد أن رحلت من كانت تأتى من أجلها، أو ربما فهمت رسالة شقيقتى فلم ترد أن تذكرنا بأمى، أو تكون رؤيتنا لها سبب في استعادتنا لأحزاننا. كثيرًا ما رأيتها بعد ذلك وهى تسير في الشارع هائمةً على وجهها بنفس الجلباب المتهالك والنظرة الحزينة وحلة البيض تحملها فوق رأسها. أتذكر أمى وأقاوم رغبتى في البكاء، ورغبتى في أن أذهب إليها لأسألها عن أحوالها وإن كانت تحتاج إلى أى مساعدة، ولكن يمنعنى خجلى، ويمنعنى أكثر ذلك التعفف والكبرياء لديها والذى لم أرَ مثله أبدا. لهذه المرأة العظيمة الطيبة والتى لا أعلم اسمها : سلامًا على روحكِ أينما كنتى.