هياتم.. نجمة الجماهير الحقيقية

 

1- سيدة الشاشة العربية

الفن الرديء يسقط بالتقادم، عندما تذهب عنه زهوة النجاح، وتمضى القيمة التجارية وحسابات المكسب والخسارة إلى حال سبيلها، ولا تبقى إلا القيمة الفنية كمعيار وحيد لتقييم العمل الفني، فلا شيء يهزم الزمن لا الفن الرديء ولا حتى الألقاب الفنية المصنوعة والوهمية، كله إلى زوال، ويبقى فقط ما يُصدقه الناس.

لدينا مثلا فاتن حمامة، ولقبها الأشهر، سيدة الشاشة العربية، والتي اعترضت عليه يومًا ما مريم فخر الدين، في أحد حواراتها الصحفية قائلة “يعنى هي كانت سيدة الشاشة واحنا كنا جواري”، والآن رحلت مريم فخر الدين، ورحلت فاتن حمامة، ورحل بالتأكيد أغلب جمهور فاتن، أو معاصروها في البدايات، والتي كانت نجمة زمانهم، وساهموا في صنع بداية نجوميتها، ولكن بقيت فاتن كقيمة فنية ثابتة وأصيلة بما تركته من فن حقيقي، يعيش في وجدان الناس، وتتوارثه الأجيال، وكذلك لقبها سيدة الشاشة العربية، سيبقى طويلًا علامة على فنها الخالد، كمثل لقب كوكب الشرق، للسيدة العظيمة الأخرى أم كلثوم.

2- نجمة الجماهير

نفس هذه المعادلة ستجدها لا تكتمل عندما تحاول أن تطبقها على فنانة مثل نادية الجندي، وهى صاحبة واحد من أشهر الألقاب في تاريخ السينما المصرية وهو لقب “نجمة الجماهير” الشيء الذي يجعلنا نتساءل الآن وبعد سنوات قليلة فقط من ابتعادها عن الساحة. أين ذهبت هذه الجماهير؟ كيف ابتعدت النجمة فتبخر جمهورها العريض ولم يترك أي تأثير يُذكر على الأجيال التالية وكأنه لم يكن موجودًا من الأساس؟! كيف تنظر الأجيال الحالية إلى أفلام من يُفترض أنها كانت “نجمة للجماهير” وما مدى تأثرهم بها؟ وهل بقى للقب نجمة الجماهير أي معنى؟

أسئلة كثيرة ستجد إجابتها في منتهى السهولة لأنه في الواقع لم تعد هناك نجمة ولا جماهير، وحتى اللقب فقد معناه ولم يصمد أمام الزمن،  ولكن حتى إذا ابتعدنا عن القيمة الفنية واستخدمنا نفس الشروط التي وضعتها نادية الجندي – والتي لا أحد ينكر نجاحها الجماهيري بالمناسبة- كمعيار للنجاح ودليل على استحقاقها للقب، سنجد أن فنانة مثل هياتم هي الأجدر والأحق بقلب “نجمة الجماهير” .. وقبل أن تبدأ اندهاشك سأقول لك الآن لماذا هياتم بالتحديد.

3- الرغبة والضياع

في بدايتها ظهرت هياتم في عدة أفلام كراقصة فقط. تظهر في أحد المشاهد لتؤدى رقصة ويُكتب اسمها على التترات “الراقصة هياتم” وجاء دورها الأول أو بدايتها كممثلة عام 1973 في فيلم “الرغبة والضياع” للمخرج أحمد ضياء الدين ومن بطولة نور الشريف ورشدي أباظة وهند رستم. ومنذ أول مشهد لها في عالم التمثيل وهو المشهد الأول للفيلم كله كانت هياتم واضحة تمامًا وتعرف جيدًا ماذا تريد.

 

عندما كانت “تبصبص” لخطيب إحدى صديقاتها بينما صديقة أخرى جالسة معها تبدي تعجبها لتركها حبيبها الحالي وتسألها باستغراب “لكن ده لاعيب كورة ممتاز؟” لترد هياتم في بساطة “عشان كدة طلع أوت” في هذا الفيلم نجحت هياتم والتي كانت تؤدى دور نوال المرأة اللعوب صاحبة العلاقات المتعددة في أن تقيم علاقة مع 5 على الأقل من أبطال الفيلم في خلال أول نصف ساعة فقط من زمن الفيلم، وهو رقم قياسي كان مُرشحًا للزيادة لولا أن نور الشريف قام بقتلها قبل أن تصل إلى رشدي أباظة وربما لكانت تصل إلى مخرج العمل نفسه.

https://www.youtube.com/watch?v=p51XEzhyoR0

 

4- هند رستم وإسماعيل ياسين

من مفارقات الفيلم الأول لهياتم هو وجود الفنانة هند رستم كبطلة للعمل وهى من اشتهرت كأهم نجمة للإغراء بين فنانات جيلها، وكأنها جاءت لتسلم الراية لهياتم لتكمل مسيرة الإغراء في السينما المصرية مع إدراكنا التام للفارق الكبير بين ما قدمته هند رستم وما تقدمه هياتم. وهو فارق تستطيع أن تستخدمه كمؤشر على مدى التدهور الذي أصابنا بعد حقبة الستينات على كافة الأصعدة وليس في الفن فقط.

أما المفارقة الأخرى فهي أن المرة الأولى التي كُتب فيها اسم هياتم على تتر فيلم سينمائي كممثلة ودون أن يكون مصحوبًا بقلب الراقصة، كان هناك حدثًا تاريخيًا مُهمًا وهو ظهور اسم الفنان الكبير إسماعيل ياسين للمرة الأخيرة على تترات السينما المصرية، فقبل اسم هياتم مباشرة كتب “وبالاشتراك مع إسماعيل ياسين في آخر أدواره” وهي كلها مفارقات تليق بهياتم وبداية تستحقها كممثلة ستترك كل هذا التأثير فيما بعد.

وحتى اسم الفيلم “الرغبة والضياع” عندما تتأمله ستجده موحيًا ويلخص الموقف كله بمنتهى البلاغة، فالرغبة هي الكلمة التي دارت حولها مسيرة هياتم الفنية كلها، أما الضياع فهو ضياع إسماعيل ياسين بالطبع والذي انتهت مسيرته في الفن وفى الحياة كلها بعد هذا الفيلم. ما بين الرغبة والضياع يكمن الفارق بين مسيرة تبدأ وأخرى تنتهي. الفارق ما بين زمن “رغبة” هياتم الذي بدء في نفس اللحظة التي انتهى فيها زمن براءة إسماعيل ياسين وضاع إلى الأبد.

 

5- هياتم رئيسًا للجمهورية

عندما تقارِن هياتم بنادية الجندي ستجد الكفة تميل تمامًا لصالح الأخيرة، فنادية الجندي كانت نجمة شباك والبطلة الأولى لأفلامها، وهى المرأة الوحيدة التي استطاعت مزاحمة عادل إمام وبقية النجوم من الرجال على عرش الإيرادات طوال الثمانينات وحتى أواخر التسعينات، أما هياتم فكانت تقوم بأدوار بطولة ثانية ولم تكن بطلة أولى إلا في بعض أفلام المقاولات، وحتى في هذه الأفلام لم تكن هي البطلة الرئيسية التي تتحرك من حولها الأحداث مثل نادية الجندي.

وبرغم هذه المساحة الضيقة التي أطلت من خلالها هياتم مقارنةً بما أحاط نجمة الجماهير من أضواء، فإنها تفوقت عليها وتركت أثرًا وتأثيرًا لدى محبي الفن الهابط لا زال مستمرًا حتى اليوم. وحتى لا يعتقد البعض أن السبب في ذلك هو مخاطبتها للغرائز أو نمط أدوار الإغراء التي اعتادت تقديمها فلا يخفى على الكثيرين أن خلطة أفلام نادية الجندي كانت لا تخلو أيضا من هذا الجانب، بل أن مشاهد الإغراء تكاد تكون ركنًا أساسيًا في أغلبها.

أما دليلي على هذا التأثير فهو يتلخص ببساطة في نظرة الأجيال الحالية للنجمتين، فأي متابع جيد لمواقع التواصل في الأعوام الأخيرة سيجد سيرة نادية الجندي لا تأتى غالبًا إلا في إطار السخرية من أدائها التمثيلي أو من مشاهد أفلامها وبطولاتها المخابراتية وصراعها الدائم مع الموساد ومنظمات الجاسوسية، أما هياتم فلا تأتى سيرتها إلا بكل خير كرمز للإغراء، فهي لم تدَّعِ أية بطولات سوى بطولاتها في إيقاع الرجال في شباكها وربما لذلك قام البعض قبل انتخابات الرئاسة الأولى عقب الثورة وتحديدًا في عام 2012 بتدشين حملة لترشيح هياتم لمنصب رئيس الجمهورية تحت شعار “نحمل الدلع لمصر” بينما لم يتذكر أحد نادية الجندي ولو حتى في انتخابات المحليات!

6- شحاتة أبو كف وعفوًا أيها القانون

أفنت نادية الجندي عمرها الفني كله من أجل مصر، فإنجازاتها في عالم الجاسوسية لا تقل أهمية عما فعله أدهم صبري “بطل سلسلة روايات الجيب الشهيرة” لا أعرف تحديدًا كم “ميكروفيلم” جاءت بهم نادية الجندي من قلب تل أبيب ولا أعرف أصلا مدى أهميتهم أو بماذا استفادت بهم مصر، ولكنها قامت على أي حال بعمل بطولي ونجحت في مهمتها على أكمل وجه والدليل أننا انتصرنا في حرب أكتوبر.

وقد يعتقد البعض أن هياتم لا تملك في مسيرتها الفنية إنجازات من هذا النوع، ولكنهم مخطئون، فيكفي هياتم أنها من قضت على أسطورة نجم الزمالك “شحاتة أبو كف” بطل فيلم “غريب في بيتي” وأنهت مسيرته في الملاعب بعد أن تجرأ وسجل في مرمى الأهلي 6 أهداف في مباراة واحدة، فاستضافته هياتم بمنزلها عشان تفرجه على “الاختراع”، و”من يومها ما شافش الملعب تاني”، وبالتأكيد جماهير الأهلي لم تنسَ أبدًا لهياتم هذا الجميل.

أما إنجازها الآخر فهو علاقتها بمحمود عبد العزيز في فيلم “عفوًا أيها القانون” للمخرجة إيناس الدغيدي، وهى العلاقة الغير شرعية الأهم في تاريخ السينما المصرية، لأنها جعلت الجميع ينتبه لقانون العقوبات الذي يُفرق في العقوبة بين الرجل والمرأة في جريمة الخيانة الزوجية أو “الزنا” رغم أن الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع ساوى بين الاثنين في العقوبة. ورغم أن هذا القانون لا زال ساريًا حتى يومنا هذا، فيكفى هياتم أنها شاركت في صرخة الاحتجاج الأولى ضد وجوده. وهكذا نجد هياتم قد حاولت أن تنصف المرأة وأرضت جمهور الأهلي ومن المعروف أن المرأة نصف المجتمع والأهلي فوق الجميع، “إنجازات دي بقى ولا مش إنجازات يا متعلمين يا بتوع المدارس!”.

 

7- بتحبني يا روح بابا اصرف عليا

لا تخلو مسيرة هياتم من أقوال مأثورة ما زال البعض يتداولها حتى اليوم وأشهرها المشهد الذي واجهت فيه محمود ياسين في فيلم “الأقوياء”، وصارحته قائلة “إسمع ياروح ماما أنا مش بتاعة حب، الدنيا علمتنى أن الحب مش في القلب الحب دلوقتي بقى في الجيب، بتحبني يا روح بابا اصرف عليا مش كل مرة تجيلي إيد ورا وإيد قدام”.

على الجانب الآخر، لن تجد لنادية الجندي في ذاكرتك سوى تلك اللزمات التي كانت حريصة جدًا على وجودها في كل أفلامها، ففي كل فيلم تأتى بجملة جديدة تظل ترددها كإفيه ولزمة ثابتة للبطلة. “حاجات كدة زي حابس حابس”، و”تعالى ما قولكش”، و”ده أنا نعمة الله والأجر على الله”، و” خالتي بتسلم عليك”، وهى جمل ولزمات تلخص مسيرة نادية الجندي كلها لأنها كما ترى لا تثير في نفس من يسمعها الآن سوى الضحك والسخرية.

8- نظرة المجتمع للراقصة

للرقص مكانة خاصة في وجدان المصريين باعتباره فنًا مصريًا خالصًا وتراثًا أصيلًا نتوارثه جيلا بعد جيل منذ آلاف السنين وتشهد النقوش والرسومات على جدران المعابد الفرعونية على مدى تعلق أجدادنا القدامى بالرقص، ولكن المواطن المصري على مر العصور تعاقبت عليه حضارات وثقافات مختلفة حتى أصبح مُحمل بكمٍ مهول من التناقضات.

إحدى أشكال هذه التناقضات تتضح في نظرة المواطن العادي الآن للرقص الشرقي، فغالبًا ستجده يحب مشاهدته جدًا ويحرص عليها ولكنه في نفس الوقت يؤمن تمامًا في قرارة نفسه بأن الرقص حرام وأن الراقصة لابد وأن تكون “ساقطة”، اذهب لأي  فرح في أي منطقة شعبية لتشاهد كيف يحرص أصحابه على جلب راقصات ويتفاخرون بذلك وكيف يتكالب المدعوون على المشاهدة بشغف كبير، ويتعامل الجميع مع الراقصة بنوع من المهابة والتوقير والاحترام، ونفس هؤلاء الأشخاص إذا فكرت ابنة أي واحد منهم أن تصبح راقصة لشعر بالعار ولربما فكر في قتلها. فالراقصة مهمة جدًا، ولكنها ساقطة بلا شرف، هذه هي باختصار نظرة أغلب المصريين للرقص والراقصات عمومًا.

أما علاقة هذا الكلام بهياتم، فلأنها تقريبًا الراقصة الوحيدة ممن اتجهوا إلى التمثيل التي لعبت على هذا الوتر بذكاء شديد وأرضت غرور جمهورها العريض وقدمت له ما يتوافق تمامًا مع هذه الأفكار. أنتم تؤمنون أن الراقصة لابد وأن تكون مُنحلة أخلاقيًا، إذن فلن أُخيب توقعاتكم أبدًا.. فعلى مدار ما يقارب الـ80 فيلم أخلصت هياتم لأدوار فتاة الليل والزوجة الخائنة والمرأة اللعوب صاحبة العلاقات المتعددة، إخلاصًا تامًا وليس له مثيل لدرجة أنك ستعانى لكي تجد لهياتم دورًا واحدًا لامرأة عادية بعيدًا عن هذا النمط.

وهذا في رأيي هو السبب الرئيسي في سر نجومية هياتم وتحولها إلى ما يشبه رمزًا للإغراء رغم أنها تمتلك مقومات للجمال أقل بكثير من نجمات أخريات، ولكنها تفوقت عليهن بما هو أهم لأنها الوحيدة التي قدمت للمشاهد ما ينتظر أن يشاهده وما يرضى عقله وأفكاره وغرائزه، فعندما تخاطب العقل والغريزة معا وتنجح فمن المؤكد أنك ستتفوق وبالضربة القاضية.

9- ستات قادرة

ابتعدت هياتم عن السينما لأكثر من 15 عام بعد فيلم “زيارة السيد الرئيس” عام 1994 وبالتأكيد كان لعامل السن دورًا في هذا الابتعاد بعد أن كبرت ولم تعد تناسبها طبيعة الأدوار التي كانت تؤديها من قبل، وخلال هذه الفترة شاركت في العديد من المسلسلات التلفزيونية، إلى أن عادت للسينما مرة أخرى بدءً من عام 2009.

ومنذ عامين كانت إحدى بطلات فيلم “هز وسط البلد” والذي قدمت فيه دور راقصة معتزلة تمتلك محلًا للملابس، تقود من خلاله في الخفاء شبكة للأعمال المنافية للآداب. وهو تقريبا نفس دورها في مسلسل “ستات قادرة”، “أصلا ما كانش ينفع يبقى فيه مسلسل اسمه “ستات قادرة” وما يبقاش فيه هياتم”، التي وإن كانت ابتعدت عن الملاعب فإنها عادت إلى الساحة بكل قوة بعد أن اتجهت إلى التدريب حتى تستفيد الأجيال الحالية من خبرتها الفنية وتتعلم اللعب على أصوله.

10- شارع هياتم

هل تعلم نادية الجندي أن هناك شارعًا في الإسكندرية يحمل اسم الفنانة هياتم؟ أنا لا أمزح فيوجد في محافظة الإسكندرية بحي شرق وأمام كوبري ستانلي شارع يحمل اسم هياتم، وهو الشارع الذي نشأت فيه وشهد بدايتها قبل أن تتجه إلى القاهرة لتبدأ مشوارها الفني، شارع يحمل اسم هياتم بينما لا يوجد حتى كشك سجائر يحمل اسم الفنانة العظيمة نادية الجندي رغم كل ما قدمته من تضحيات من أجل مصر، أيوحد دليل أكثر من هذا على أن هياتم مكتسحة ومسيطرة ومتفوقة تمامًا وهى عن جدارة نجمة الجماهير الحقيقية!